ربما لم يحظ أبو إبراهيم الهاشمي القرشي الخليفة الجديد لتنظيم الدولة، بالاهتمام الإعلامي الكبير، ولم يتم تسليط الضوء الكافي على خلفيته الفقهية، وأصوله الإثنية، وجذوره الاجتماعية، كما حصل مع سلفه أبو بكر البغدادي، لكن تقارير أمريكية، نشرت مؤخرا، كشفت بعض التفاصيل التي تعتبر صادمة ومفاجئة حتى بالنسبة لداراسي الفصائل الجهادية والتنظيمات الإرهابية في العالم.
في البدء، يجب القول؛ إن الخليفة الجديد حمل عدة أسماء حركية، اختلفت بحسب المكان والزمان، فقد حمل ألقابا مثل «البروفيسور» أو «المدمر» على خلفية ما نسب له من مسؤولية عن المجزرة الوحشية، التي كان أحد أبرز المخططين لها بحق الأقلية الأيزيدية، التي تضمنت التصفيات الدينية، والمجازر الجماعية والاستعباد الجنسي، وبيع النساء والأطفال في أسواق النخاسة. وكان اسمه الحركي في مرحلة سابقة عبد الله قرداش، كما حمل لقب «أبو عمر التركماني»، لكن حسب تقارير المخابرات الأمريكية، فإن الخليفة الجديد «أبو إبراهيم القرشي» هو أمير محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وهو من مواليد تشرين الأول/أكتوبر عام 1976، يتحدر من أصول تركمانية، وُلد في قرية المحلبية التابعة لقضاء تلعفر في محافظة نينوى في العراق. متزوج من سيدة تدعى إسراء عبد الرحمن، وأنجب منها ولدا واحدا. أنهى دراسته الأولية والجامعية في محافظة نينوى، وخدم كجندي في الجيش العراقي من 2001 إلى 2002. وفي كانون الثاني/يناير 2007 حصل على درجة الماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية العلوم الإسلامية في جامعة الموصل، وعمل بعد ذلك إماما لمسجد الفرقان في الموصل.
تشير بعض التقارير إلى أن المولى كانت له نشاطات جهادية، اعتقل بسببها من القوات الأمريكية، لكن البعض يشير إلى أنه كان إسلاميا متعاطفا مع الجهاديين فقط، ولم يكن منتميا لتنظيم «القاعدة» الذي كان نشيطا ما بين 2003 و2009، لكنه في معتقل بوكا عام 2008 تعاون مع الأمريكيين، وقدم لهم معلومات ذهبية عن التنظيمات الجهادية الإسلامية، ما وفّر لهم فرصا كبيرة وسهل عليهم عمليات اعتقال وقتل الكثير من قيادات تنظيم «القاعدة» في العراق. بالمقابل كانت مكافأة المولى إطلاق سراحه من المعتقل، لينخرط بعد ذلك في تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق» الذي تطور لاحقا إلى تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) وتدرج بسرعة في التنظيم وحظي بمراكز مهمة، إذ بات شرعيا للتنظيم، أي القاضي الشرعي للتنظيم، وبعد مقتل الرجل الثاني في التنظيم أبو قسورة المغربي بغارة أمريكية، أصبح المولى ضمن الحلقة الصغيرة المحيطة بإبراهيم البدري السامرائي المعروف بـ«أبي بكر البغدادي»، وعندما قتل البغدادي في مدينة إدلب السورية في غارة للتحالف، اختار التنظيم المولى في تشرين الأول/ أكتوبر 2019 ليكون الخليفة الجديد، وبات اسمه الحركي الرسمي «أبو إبراهيم الهاشمي القرشي». موقع «المكافآت من أجل العدالة» هو موقع إلكتروني أمريكي حكومي، تعلن فيه حكومة الولايات المتحدة عن المكافآت المالية، لمن يدلي بمعلومات تسهل عملية القبض على الشخصيات المطلوبة قانونيا، ومن بين المعلن عنهم في هذا الموقع أمير محمد سعيد عبد الرحمن المولى، إذ أعلنت حكومة الولايات المتحدة عن مكافأة تصل قيمتها إلى 10 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تسهل القبض على الخليفة الجديد لتنظيم الدولة، وأشار الموقع إلى أن المولى كان يعرف أيضا بحجّي عبد الله قرداش، القائد العام لـ«داعش». وكان إرهابيا أقدم في التنظيم السابق لـ«داعش» «القاعدة في العراق»، وتدرّج بالصعود في المناصب ليتولى منصبا قياديا عاليا، نائبا للخليفة.
الوثائق الجديدة نشرها مركز مكافحة الإرهاب في أكاديمية ويست بوينت العسكرية الأمريكية يوم 6 نيسان/إبريل الجاري، وقد أشارت الاستجوابات إلى أن المولى لم يكن يتمتع بأي التزام مُبكر في القضية الجهادية، مثل الآخرين بمن في ذلك البغدادي. وقد ركز المولى كل جهوده على إكمال دراساتهِ العُليا، في أثناء الفترة التي كان أصدقاؤه الجهاديون مُنشغلين بتأسيس مجلس شورى المُجاهدين عام 2006، كما كان يتجنب المُشاركة في الأحداث السياسية بأي طريقة؛ لأنهُ لم يكُن يمتلك حينذاك القدرة او التركيز على الجانب الجهادي إطلاقا، ولم يكُن مُباليا، بحسب أقواله التي أبلغها للمحققين، بقضايا النضال آنذاك، لذلك كانت ترجيحات المحققين مضطربة بخصوص الاعترافات التي أدلى بها المولى، فمنهم من ذهب إلى أنه تعمد الاستخفاف برواية تجنيده، حتى يقلل من مستوى التزامه بالجماعة، ومنهم من ذهب إلى أنه كان بالفعل بمعزل عن التمرد خلال مرحلته المبكرة، وما قدمه من تفاصيل كافية لاستبعاد احتمال كونه مخادعا بشأن هذه النقطة.
ويشير دانيال ميلتون الأستاذ المشارك في مركز مكافحة الإرهاب، وأحد الباحثين الذين راجعوا وثائق أكاديمية ويست بوينت العسكرية، في مقال نشرته مدونة الأمن القومي (Lawfare)، إلى أن المولى كان طائرا مغردا (كناية على أنه كان واشيا)، وكان يتمتع بموهبة وقدرة فريدتين؛ إذ أشارت تقارير الاستجواب إلى تفاصيل وشاياته المتعددة. ويشير ميلتون إلى أن المسؤولين الأمريكيين الذين نشروا هذه الوثائق، أدركوا إمكاناتها كمصدر لإحراج الخليفة الجديد، على الرغم من أن خلفية زعيم «داعش» الجديد كمخبر، كانت معروفة بالفعل داخل الأوساط الإسلامية المتشددة. وكان معلقون بارزون مؤيدون لتنظيم الدولة، انتقدوا على مواقع التواصل الاجتماعي الموالية للتنظيم، قرار ترقية المولى إلى منصب الخليفة، بحجة أنه غير مؤهل لهذا المنصب.
الوثائق التي نشرها مركز مكافحة الإرهاب تمثل الدفعة الثانية من المعلومات حول دور المولى في الكشف عن العشرات من أعضاء تنظيم «القاعدة» في العراق، في أثناء احتجازه في سجن بوكا جنوبي العراق، عام 2008. وقد أشارت صحيفة «واشنطن بوست» في تقريرها عن متابعة وثائق التحقيق مع الخليفة الجاسوس فقالت «في تقارير الاستجواب السرية الأمريكية، تم تصوير المعتقل العراقي أمير محمد سعيد عبد الرحمن المولى الذي كان يحمل الرقم (M060108-01 ) بأنه سجين نموذجي متعاون مع ضباط التحقيق الأمريكيين، وتحدث بشكل غير عادي وبذل جهده كي يكون مفيدا». وأضافت الصحيفة أنه «بعد أسابيع من هذه الاستجوابات، قتل جنود أمريكيون أبو قسورة المغربي القيادي في تنظيم «القاعدة: في غارة على مدينة الموصل العراقية».
الوثائق الاستخباراتية التي تحمل اسم «تقارير الاستجواب التكتيكية»، التي تُعد جزءا من الملف الذي يخص كل محتجز، تم ضبطه واستجوابه من الجيش الأمريكي في أثناء العمليات العسكرية، أشارت إلى عدة أدوار أدّاها أبو إبراهيم القرشي، إذ توسط في النزاعات مع الجماعات المسلحة الأخرى، وعمل على تعيين القضاة داخل التنظيم، وأشرف على النشرات الإعلامية الصادرة عن التنظيم، كذلك تولى إصدار أحكام قانونية ملزمة، في ما يتعلق بالشريعة الإسلامية في عدد من القضايا. وأشار كريستوفر ماير مساعد وزير الدفاع الأمريكي للعمليات الخاصة، إلى «أن المولى قام بعدد من الأشياء لإنقاذ رقبته، وكان لديه سجل طويل من العدائية تجاه الأجانب في تنظيم الدولة». وأضاف ماير، الذي ناقش في مقابلة الوثائق الصادرة مؤخرا: «مع صعود تنظيم الدولة، والرغبة في تشكيل خلافة بآلاف المقاتلين الأجانب، كان ذلك وضعا إشكاليا للمولى». ويشير عدد من الباحثين في شؤون الجماعات الإرهابية إلى أن مهمة أبو إبراهيم القرشي، ربما ستكون مؤقتة لحين بروز شخصية أكثر قدرة على قيادة التنظيم الذي عانى من الضربات المتلاحقة، التي أنهكته وجعلته يتحول إلى مجموعة من الخلايا المتفرقة الناشطة في الصحارى والأصقاع النائية بعيدا عن المدن، وبات التنظيم يستخدم تكتيكات الكر والفر، والضربات المتفرقة، بدون أن يتمكن من إمساك الأرض والسيطرة على المدن، كما حصل في ذروة صعود نجم تنظيم الدولة عام 2014 والسنوات اللاحقة. فهل جاءت ضربة وثائق مركز مكافحة الإرهاب في أكاديمية ويست بوينت الأمريكية لتعجل في نهاية الخليفة الجاسوس؟ هذا ما ستكشفه الأيام المقبلة.
(القدس العربي)