ظاهرة غير متوقعة عادت لتطل برأسها على المجال العام في مصر. ظاهرة أثارت إحساسا بالانتصار لدى المؤمنين بثورة يناير، مع أنها تبدو بعيدة عن المجال السياسي بمعناه المباشر.
الظاهرة هي الضجة التي
ثارت على ساحات السوشيال ميديا بعد عرض برومو مسلسل "الملك" خلال الأيام
الفائتة، واشتداد نبرة النقد والسخرية من المسلسل وصناعه ونجومه؛ ما أدى إلى قرار
الشركة المنتجة "المتحدة للإنتاج الإعلامي" بوقف المسلسل، وتشكيل لجنة
من أساتذة التاريخ والآثار والاجتماع لفحص العمل من جميع زواياه، ثم رفع تقرير
لإدارة الشركة لاتخاذ القرار المناسب.
ثمة مفارقات عديدة في خلفية هذا الحدث. أولها أن ذلك حدث على خلفية العرض الناجح لموكب نقل المومياوات الملكية المصرية من المتحف المصري في ميدان التحرير، إلى المتحف القومي للحضارة في مدينة الفسطاط، وضم نقل 18 مومياء لملوك و4 مومياوات لملكات من الأسر 17-18-19-20. وكان الإعداد للموكب جيدا، فخرج في صورة مبهرة. وبدا أن منح المتخصصين فرصة العمل، والتخلي عن الاعتماد على ذوي الولاء السياسي قد نجح هذه المرة.
من سوء تقدير صناع
مسلسل الملك أنهم طرحوا البرومو الخاص به بعد نجاح موكب المومياوات الملكية، ويبدو
أنهم تصوروا إمكانية البناء على نجاحه، ولم يتوقفوا عند السبب الأساسي لنجاحه:
الدقة في العمل والعناية بأدق التفاصيل، وهو ما يناقض تماما أسلوب العمل على
مسلسلهم، الذي حفل بالأخطاء الكارثية والاستسهال التام في معالجة كل ما يمت
للتاريخ من حيث ديكورات المسلسل ومبانيه من قصور ومعابد وبيوت، ومن حيث أزياء
الممثلين والممثلات ومظهرهم.
بالتأكيد لا يجوز إغفال
أصوات عديدة علقت على موكب نقل المومياوات بأن الروح الوطنية التي رفرفت على
المواطنين تشبه الروح الوطنية التي اكتسحت مظاهر الحياة أيام فوز الأرجنتين بكأس
العالم التي نظمتها أيام الجنرال خورخي فيديلا، بينما كان المعتقلون يئنون تحت
التعذيب في الاستاد نفسه قبل البطولة، بحيث لا تغير روعة الافتتاحات والاحتفالات
القومية من الواقع الكابوسي الذي سيعود فور هدوء الحالة الاحتفالية. كما لا يمكننا
أن نتجاهل نقد بعض المدونين لتطوير بحيرة عين الصيرة التي تألقت في مشهد نقل
المومياوات مرصعة بالقوارب الفرعونية ذات الألوان الزاهية والإضاءة السحرية، مع
أنها كانت تضج بالقمامة والإهمال، حين كانت جزءا من القاهرة الشعبية، الفقيرة،
وليست مشهدا في لوحة سياحية جميلة!
هكذا جاء رد فعل رواد السوشيال ميديا على برومو مسلسل الملك عنيفا. والحق أنه يبدو لافتا جدا أن يضم برومو المسلسل جميع أنواع الأخطاء التاريخية الممكنة، ليس في إطار الأحداث التي يمكن للمؤلف تخيلها، بل في إطار طبيعة الحياة وسياقها التاريخي، حتى إن صناع الكوميكس على السوشيال ميديا تفننوا في السخرية منه، وكُتبت مقالات وبوستات متخصصة لتفنيد تلك الأخطاء، التي لا يحتاج بعضها لدقة وتمعن. فمثلا لم يكن المصريون القدماء ملتحين، وكان الفراعنة بالأخص حليقي الرؤوس والذقون، بل كانوا يصورون أعداءهم برؤوس غير حليقة، حتى إن أحد المتخصصين أورد رسما لمشاهد رسمها الفراعنة للهكسوس ويبدون فيها غير حليقين بينما المصريون حليقو الرؤوس والذقون تماما. هل كان صعبا أن يختار صناع المسلسل ممثلا أسمر، مصري الملامح، حليق اللحية؟
ثمة طرائف أخرى مثل
ظهور مبنى مشيد من الخرسانة في البرومو، فما صعوبة بناء بيت من الطين اللبن،
الموجود حتى اليوم في الريف المصري؟ وظهرت بطلات المسلسل بأقراط في آذانهن وهو ما
عرفه المصريون بعد زمن أحمس بمئات السنين، كما ظهرت إحدى نجمات المسلسل بشعر ذهبي
مصبوغ وهي تؤدي دور ملكة مصرية جنوبية.
لماذا نخاصم الدقة
والعمل الجاد في سبيل تقديم أعمال مقنعة؟ يبدو أن السبب مرتبط بهيكلة الاقتصاد
المصري في زمن السيسي، وهو ما أوضحه الصحفي حسام بهجت في منشور ساخر تلقى تفاعلا
هائلا على "فيسبوك"، يشرح فيه كيف وضع جهاز المخابرات العامة يده على مفاصل
الإنتاج الدرامي؛ حيث اشترى "بأموال الشعب" الشركة المنتجة للمسلسل
والقنوات التي سوف تعرضه، وشركات الإعلان التي ستبيع فقراته الإعلانية، بل وشركات
الدعاية المسؤولة عن توزيع الإعلانات في الشوارع، وكذلك شركة التوزيع والمنابر
الإعلامية التي ستمدح العمل، ما يعني نجاحا صافيا لا شك فيه..
ثم تأتي السوشيال ميديا بشبابها الساخر الذي لا يفعل سوى الضحك على كوارث المسلسل، ولأن الملك أحمس منقذ مصر من الهكسوس، يمثل إسقاطا تاريخيا على السيسي منقذ مصر الحديثة، اضطر جهاز المخابرات "مالك الشركة المنتجة" لإيقاف المسلسل! بعد كل ما بذله من جهود لإحكام قبضته على مفردات إنتاج السينما والدراما من إنتاج وتوزيع وتسويق ودعاية.. ثم تنتصر السوشيال ميديا!
ربما تحدث كثيرون عن
الأخطاء المضحكة في برومو المسلسل، ولم يتوقف أحد عند إحدى ركائز القبح في الدراما
الرمضانية المصرية، خاصة في السنوات الماضية، وهي ضخ هرمونات الوطنية عبر خطب
زاعقة وانفعالات مصطنعة وأصوات صاخبة، تردد الأفكار التي سئم منها الشعب الجائع عن
عظمة مصر التي لا يجدون لها أثرا، وعن تضحيات رجال السلطة في مصر الذين يفرمون
المواطن بقرارات وضرائب لا ترحم.
لا يشعر الشعب بعظمة
مصر لأنه جائع، فأسباب عظمة أي وطن تبدأ من إدارة موارده المالية إدارة حكيمة،
وتوجيهها نحو تشييد خدمات صحية وتعليمية حقيقية، وتطوير المناطق الفقيرة حتى دون
الحاجة إليها لإخراج مشهد سياحي. حين تعالج الدراما هذه المشكلات سيعود شغف الناس
بها.
ستصبح مصر بلدا عظيما
حين تنجح مدارسها في تعليم أبنائها جميعا، تعليما راقيا حقيقيا، وحين يمرض المواطن
الفقير فيجد مستشفى حكوميا مؤهلا لعلاجه بالنفقات التي يدفعها الشعب في صورة
ضرائب... وهو ما يحدث عكسه. هكذا، وبالتدريج لم يعد خطاب الدراما الرمضانية الزاعق
عن عظمة مصر مؤثرا لدى الشعب، الذي تزداد معاناته بزيادة الضرائب والرسوم والجمارك
والغرامات التي تفرضها الدولة يوما بعد يوم!
منذ عرف الناس الدراما،
أحبوها لأنها تعبر عن مشاكلهم وهمومهم، لا عن بروباغندا الأنظمة التي تهدر حياة
مواطنيها في السجون لمجرد أنهم مختلفون مع النظام الحاكم. من هنا يبدو موقف
الفنانين المصريين الذين انتفضوا زاعقين في الشعب الذي سخر من برومو المسلسل.. يبدو
موقف هؤلاء الفنانين أكثر غرابة وسخافة، لأنهم وجهوا غضبهم نحو المتنفس الوحيد
للشعب: السوشيال ميديا، مصطنعين موقفا في غاية التناقض، محاججين الشعب بأن إيقاف
المسلسل هو نوع من القمع، مع أن الذي اتخذ القرار كان الشركة المنتجة، لا الشعب
المغلوب على أمره!
هكذا هاجم المدونون
بوستات الفنانين الذين لم يقدروا على مواجهة السلطة فأفرغوا غضبهم في وجه الشعب،
مع أن سقف الحرية في انخفاض منذ تولت سلطة 30 يونيو زمام الأمور في مصر. لم نسمع
صوت أحد من هؤلاء حين منعت السلطات مسلسل "أهل اسكندرية" للكاتب بلال
فضل، الذي كتبه قبل سنة 2011، ووافقت الرقابة على تصويره رسميا!
ويبقى السؤال: هل يصمد صوت السوشيال ميديا
ويساهم في تغييرات أكثر حدة؟
روائي جزائري يتوج بجائزة نجيب محفوظ للأدب في القاهرة