مع صدور تقرير أجهزة الاستخبارات الأمريكية حول اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي وإدانة ولي العهد السعودي بالمسؤولية عن الاغتيال، انقسمت الآراء حول الموقف من التدخل الأمريكي بشأن سعودي داخلي، بين من يعتبره جيدا ويدعم حقوق الإنسان، وبين من يراه تدخلا من دولة هي نفسها تمارس الإجرام ضد السعودية، وبالتالي فإن هذا التدخل يندرج فقط في محاولات الابتزاز والعبث المرفوض في الشؤون الداخلية.
التدخل الخارجي
لا شك بأن هناك فريقا "صغيرا جدا" من المتابعين في العالم العربي يرفضون التدخل الأمريكي بأي شأن عربي، وينطلقون في موقفهم هذا من انحياز مبدئي ضد تدخلات واشنطن باعتبارها دولة استعمارية ولن يأتي تدخلها أيا كان شكله؛ للعرب بخير. وحينما نقول إنه فريق صغير فنحن ننطلق من تناقض مواقف معظم الفاعلين والمراقبين والكتاب تجاه تدخل خارجي دون آخر، فهم يعارضون تدخلا ما لأنه لا يتفق مع مصالحهم، بينما يؤيدون تدخلا آخر لأنه يصب في مصلحتهم.
المثير في الردود على تقرير خاشقجي، هو أن يأتي رفض التدخل الخارجي الأمريكي من الجيوش الالكترونية التابعة للأنظمة المستبدة، وخصوصا السعودية
لن نناقش في هذه السطور موقف الأقلية القليلة التي تعارض كل التدخلات الخارجية، فهي على الأقل تنطلق من معيار واحد في جميع مواقفها، وبالتالي فإن احترام رؤيتها واجب، حتى لو كنت تختلف معها. ولكن المثير في
الردود على تقرير خاشقجي، هو أن يأتي رفض التدخل الخارجي الأمريكي من الجيوش الالكترونية التابعة للأنظمة المستبدة، وخصوصا السعودية.
لا يرفض
مؤيدو الأنظمة المستبدة تدخل واشنطن في بلادهم إلا في حال كان التدخل هو للضغط بشأن قضية تتعلق بحقوق الإنسان، وبالمقابل فإن هذه الأنظمة "تتنفس" تدخلا خارجيا، وتقيم شرعيتها على الدعم الأمريكي، وتشتري الرضا الأمريكي عبر
صفقات الأسلحة التي لا يستخدمها أحد، بل إنها تستدعي تدخل واشنطن حتى في صراعاتها مع جيرانها العرب، والأهم في صراعاتها داخل بيت الحكم للوصول للسلطة!
تقيم شرعيتها على الدعم الأمريكي، وتشتري الرضا الأمريكي عبر صفقات الأسلحة التي لا يستخدمها أحد، بل إنها تستدعي تدخل واشنطن حتى في صراعاتها مع جيرانها العرب، والأهم في صراعاتها داخل بيت الحكم للوصول للسلطة
لقد استمرت معظم الأنظمة العربية المستبدة في الحكم، فقط من خلال الدعم الأمريكي، واستجدت طوال العقود الماضية تدخل واشنطن لحمايتها داخليا وخارجيا، ودفعت مقابل ذلك من أموال وثروات شعوبها الكثير للحصول على هذا الدعم/التدخل الأمريكي، لذلك فإن حديث جيوشها الالكترونية (وليس حديثها بشكل مباشر لأنها لا تجرؤ على ذلك) عن رفض التدخل الخارجي هو محض هراء، لا يقنع أحدا.
أمريكا وحقوق الإنسان
كيف لأمريكا التي لها سجل مشين في انتهاك حقوق الإنسان أن تعاقب دولة أخرى بتهمة انتهاك حقوق الإنسان؟
سؤال يطرحه صادقون مؤمنون بحقوق الإنسان و"ذباب الكتروني" في نفس الوقت. لنترك الذباب هذه المرة، ونناقش المؤمنين بحقوق الإنسان بشكل حقيقي.
إن سجل أمريكا المخزي حقوقيا، لا يعني أن تدخلها وضغطها أحيانا لا يخدم مسألة حقوق الإنسان. هنا يجب التعامل مع الأحداث من زاوية مصلحة الناس، ومن زاوية خدمة العدالة، فإذا كان التدخل الأمريكي يساهم في تحقيق العدالة، ويخفف بعض الإجراءات غير القانونية بحق سجناء الرأي، فهو تدخل يخدم عموما النضال الحقوقي.
سجل أمريكا المخزي حقوقيا، لا يعني أن تدخلها وضغطها أحيانا لا يخدم مسألة حقوق الإنسان. هنا يجب التعامل مع الأحداث من زاوية مصلحة الناس، ومن زاوية خدمة العدالة
عندما يساهم الضغط الأمريكي في الإفراج عن
سجناء رأي، كما حصل مع محمد سلطان وأعضاء في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، أو لجين الهذلول ونوف عبد العزيز في السعودية، أو غيرهم، فهو ضغط محمود، مع ضرورة أن لا يمنعنا هذا من إدانة السجل الحقوقي للولايات المتحدة من جهة، ومن التحذير من أهداف التدخل الأمريكي من جهة أخرى.
وهنا أيضا لا بد من الإشارة إلى أن المسؤول الأول عن التدخل الخارجي، سواء كان أمريكيا أو غير ذلك، هو الأنظمة العربية المستبدة وليس نشطاء حقوق الإنسان. إن جرائم هذه الأنظمة بحق شعوبها هي ما يعطي الفرصة للتدخلات الخارجية، سواء كانت هذه التدخلات بريئة أو لأهداف سياسية محضة، ولذلك فإن من يجب أن يدان هو هذه الأنظمة لا الشعوب المغلوبة على أمرها.
أمريكيا.. لا شيء يدعو للدهشة!
أظهر بعض كتاب
الصحافة الغربية والنشطاء الغربيين دهشتهم وتفاجأهم من صدور تقرير خاشقجي بدون اتخاذ إجراءات فعلية
لمعاقبة محمد بن سلمان. بعضهم أيضا بالغ باصطناع "الدهشة" من عقد صفقات أسلحة ودعم أمريكي جديد
لنظام السيسي، في الوقت الذي لا يزال يعتقل فيه نظام الانقلاب عشرات الآلاف، منهم عائلات بعض النشطاء في الخارج مثل محمد سلطان.
في الحقيقة، لا شيء يدعو للدهشة سوى دهشة هؤلاء الصحفيين والنشطاء! وكأنهم اكتشفوا أمرا جديدا. فأن تتوقع اتخاذ الإدارة الأمريكية إجراءات حقيقية ضد
أنظمة حليفة (أو تابعة) بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، فهذا يعني أنك لم تقرأ التاريخ الحديث للدولة الأمريكية، وهو تاريخ كأي نظام إمبريالي لا يكترث بحقوق الإنسان ولا بالإنسان نفسه، بل بمصالحه، ومصالحه فقط.
أن تتوقع اتخاذ الإدارة الأمريكية إجراءات حقيقية ضد أنظمة حليفة (أو تابعة) بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، فهذا يعني أنك لم تقرأ التاريخ الحديث للدولة الأمريكية، وهو تاريخ كأي نظام إمبريالي لا يكترث بحقوق الإنسان ولا بالإنسان نفسه، بل بمصالحه
لقد دعمت واشنطن كل أنظمة أمريكا اللاتينية المستبدة بحجة محاربة الشيوعية، ودعمت أنظمة الاستبداد العربي بحجة تأمين منابع النفط والممرات البحرية الاستراتيجية، وصنعت انقلابات عسكرية هنا وهناك لصالح عسكريين مستبدين بهدف تحقيق مصالحها. هكذا كانت الولايات المتحدة دائما، وهكذا ستظل، لذا فإن ادعاء الدهشة والمفاجأة من البعض، هو إما نكتة سمجة أو قلة معرفة بتاريخ حديث لم ينته بعد.
آخر الكلام.. قد تقبل تدخلات الخارج إذا ساهمت في تحقيق بعض العدالة، ولكن هذا القبول يجب أن لا ينسينا أن المسؤول الأول عن التدخلات الخارجية هو أنظمة الاستبداد، كما أنه لن يبيض صفحة الدول الغربية وخصوصا أمريكا التي لعبت دورا في تثبيت الأنظمة القمعية، وارتكبت هي نفسها جرائم بشعة بحق الإنسان.
twitter.com/ferasabuhelal