الضربة التي وجهتها إدارة الرئيس بايدن لمقر مليشيات عراقية داخل الأراضي السورية، أعادت إلى الأذهان أحداث الهجوم بصواريخ الكاتيوشا على قاعدة «كي وانK1 « شمال غرب كركوك في 27 كانون الأول/ديسمبر 2019، التي قتل فيها متعاقد أمريكي، وأصيب عدد من الجنود بجروح، وجاء الرد الأمريكي بعد يومين بضربات انتقامية لمقرات «حزب الله» العراقي في مدينة القائم على الحدود السورية ـ العراقية قتل فيها 24 شخصا، وتحولت عملية تشييع جثامين الضحايا إلى تظاهرة غاضبة من جمهور الحشد الشعبي في بغداد، حاولت مهاجمة السفارة الأمريكية في بغداد، ليأتي الرد الأمريكي سريعا وغاضبا، بقتل قائد فيلق القدس الإيراني الجنرال قاسم سليماني، ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي في العراق أبو مهدي المهندس في 3 كانون الثاني/يناير 2020، لتولد أزمة خطيرة بين طهران وواشنطن.
هذه الأيام يشهد العراق سيناريو مشابها لما حدث قبل أكثر من سنة، إذ شهد العراق مؤخرا ثلاث هجمات بصواريخ كاتيوشا على مصالح أمريكية وبعثات دبلوماسية، وكانت البداية بالهجوم الصاروخي يوم 15 شباط/فبراير الجاري على قاعدة حرير، التي يوجد فيها عسكريون أمريكيون بالقرب من مطار أربيل الدولي، وأسفر الهجوم عن مقتل متعاقد أجنبي، ومواطن مدني وإصابة ثمانية آخرين بينهم جندي أمريكي بجروح. أما الهجوم الثاني فوقع مساء يوم السبت 20 شباط/فبراير، حينما أطلقت أربعة صواريخ كاتيوشا على قاعدة بلد الجوية في صلاح الدين، التي تأوي جنودا أمريكيين، من دون وقوع إصابات، فيما كان الهجوم الثالث، مساء الاثنين 22 شباط/فبراير، الذي استهدف المنطقة الخضراء في بغداد، التي تضم مقرات حكومية وبعثات دبلوماسية، أبرزها السفارة الأمريكية التي كانت في مرمى الصواريخ.
هذا الإصرار على الهجمات وتكرارها في غضون أيام، وقفت وراءه مليشيا جديدة في خريطة الفصائل العراقية، تطلق على نفسها اسم «سرايا أولياء الدم»، التي أصدرت بيانا رسميا وصفت فيه هجومها على قاعدة حرير في مدينة أربيل جاء فيه؛ «اقتربنا من قاعدة الاحتلال (الحرير) في أربيل بمسافة 7 كيلومترات، وتمكنا من توجيه ضربة قاصمة قوامها 24 صاروخا أصابت أهدافها بدقة، بعد أن فشلت منظومة CRAM (للدفاع الصاروخي) وقذائف الاحتلال من اعتراضها».
«سرايا أولياء الدم» يعد اسما جديدا في ساحة الفصائل العراقية المسلحة، إذ يشير الاسم إلى مجموعة تعرف نفسها بأنها الجهة التي ستثأر لمقتل سليماني والمهندس، وكان أول ظهور إعلامي لهذه المليشيا، عندما تبنت عدة عمليات رشق بصواريخ الكاتيوشا في أواخر آب/أغسطس 2020، بالإضافة إلى إعلان مسؤوليتها عن تنفيذ هجومين منفصلين ضد القوات الأمريكية المنسحبة من معسكر التاجي شمال بغداد حينذاك.
المراقبون الأمنيون أشاروا إلى أن اسم الفصيل الجديد قد يكون مجرد ستارة تختبئ وراءها الفصائل الولائية القديمة المقربة من طهران، التي سعت لإخفاء هوية المنفذين الحقيقيين للضربات لأسباب مختلفة، لكن من دراسة طبيعة الضربات، والمنظومات الصاروخية المستعملة، والأهداف التي وجهت لها الضربات، يتضح أن المنفذين هم ذاتهم الذين تبنوا عمليات سابقة أعلنت فصائل مثل «حزب الله» العراقي، و«عصائب اهل الحق» مسؤوليتها عن تنفيذها.
وقد صرّح فيليب سميث، محلل شؤون الفصائل الشيعية المسلحة في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى بالقول؛ «إن جماعة (سرايا أولياء الدم) غير المعروفة أثبتت أن لديها إمكانية الوصول إلى الأسلحة التي يمكن لإيران توفيرها ومنحها لوكلائها الشيعة في المنطقة». كما صرح مسؤولون أمنيون لوكالة «فرانس برس» بقولهم؛ «إن اسم هذه المجموعة مجرد واجهة لفصائل مسلحة معروفة موالية لإيران، تطالب بانسحاب القوات الأجنبية من العراق».
لكن السؤال الأبرز الذي دارت حوله القصص الإخبارية، هو التساؤل عن توقيت وسبب تصعيد التوتر مع الولايات المتحدة، حتى وصل الأمر إلى الضربات العسكرية. وقد قرأ بعض المراقبين الأمر على أنه نوع من جس نبض حكومة طهران، لمدى صبر إدارة بايدن، عبر الضغط على الإدارة الأمريكية الجديدة لدفعها للتسريع بالعودة للاتفاق النووي. ومع أن الأمر قد يقرأ على عدة أوجه أخرى، إلا أن الموقف الرسمي الإيراني سرعان ما نفض يده من المسؤولية، ونفى أي علاقة له بالتصعيد العسكري ضد الوجود الأمريكي في العراق، إذ أعلن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده، لوسائل إعلام رسمية، أن إيران «تعارض أي أعمال تضر بأمن العراق» ونفى إشارة بعض المسؤولين العراقيين إلى صلة طهران بجماعة غير معروفة، أعلنت مسؤوليتها عن الهجوم الذي وقع في مدينة أربيل. وشدد على أن «إيران تعتبر استقرار العراق وأمنه مسألة حاسمة بالنسبة للمنطقة، وترفض أي عمل يخل بالأمن والسلام في ذلك البلد»، وأدان ما وصفه بأنه «محاولات مريبة لنسب الهجوم إلى إيران».
موقف حكومة الكاظمي من التصعيد كان ضعيفا، كما هو متوقع منها، إذ دعا رئيس الحكومة إلى تشكيل لجنة تقصي حقائق مشتركة بين بغداد وأربيل، وشدد على وجوب الوصول إلى الجناة الحقيقيين وتقديمهم للعدالة بأسرع وقت، لكن الضربة الأمريكية جاءت أسرع من لجان حكومة الكاظمي، إذ نفذت طائرات أمريكية مسيّرة ضربة إلى نقطة تفتيش غير رسمية على الحدود العراقية السورية، تمر عبرها شحنات الأسلحة والمعدات العسكرية من العراق إلى المليشيات العراقية الموجودة في سوريا، وقتل في الهجوم الأمريكي الذي نفذ يوم 25 شباط/فبراير الماضي 22 مقاتلا من المليشيات العراقية كانوا موجودين في الموقع.
وقد ذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» في تغطيتها للحدث؛ «إن وزارة الدفاع الأمريكية اتخذت ردا مدروسا على الهجوم الصاروخي في أربيل، عبر ضرب البنتاغون للمليشيات العراقية المدعومة إيرانيا في سوريا». وقال وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، عقب تنفيذ الضربة الأمريكية؛ «تم ضرب الهدف الصحيح». وأضاف أوستن في تصريحات صحفية: «متأكدون من أن الهدف الذي أصيب في سوريا كان يستخدم من قبل المليشيات التي نفذت الهجمات الصاروخية في العراق». ونقلت وسائل إعلام أمريكية عن مسؤولين أمريكيين قولهم؛ «إن الضربات الأخيرة هي رد فعل صغير جدا، تمثل في إلقاء قنبلة واحدة على مجموعة صغيرة من المباني على الحدود السورية العراقية، تستخدم لعبور مقاتلي المليشيات والأسلحة داخل البلاد وخارجها». وكان البنتاغون قد أعد قائمة من الأهداف الكبيرة لضربها في سوريا، لكنَّ الرئيس الأمريكي جو بايدن، أعطى الضوء الأخضر لضرب «أصغر» هذه الأهداف.
اختيار مكان الضربة الأمريكية داخل الأراضي السورية حمل عدة رسائل، أبرزها تمسك الرئيس بايدن ببقاء القوات الأمريكية في سوريا غرب الفرات، وعددها الآن أقل من ألف عسكري تقريبا، كما أن الضربة التي نفذتها طائرات أمريكية مسيرة داخل الأراضي السورية جنبت الأمريكيين إحراج الكاظمي، في ما لو كانت هذه الضربة قد وقعت داخل الأراضي العراقية، وممن ث تأزم موقف الكاظمي مع الفصائل الولائية التي كانت ستطالبه برد رسمي.
من جانب آخر، أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن قلقه مما حصل، وأعلن أن الجانب الأمريكي أبلغ الروس بالضربة قبل خمس دقائق فقط من تنفيذها، كما صرح مصدر في وزارة الخارجية الروسية بأن روسيا تدين الضربة التي وجهتها الولايات المتحدة إلى سوريا، وتعتبرها انتهاكا غير مقبول للقانون الدولي. بينما نظر الجانب الحكومي السوري للأمر على أنه إضعاف لحلفائه الموجودين في سوريا لمواجهة فصائل المعارضة المسلحة والفصائل الإرهابية، وبينها بقايا تنظيم الدولة (داعش) المتبقية في جيوب في البادية السورية. ويتوقع المراقبون أن يكون هنالك المزيد من الرسائل المتبادلة بين طهران وواشنطن، وربما سيمثل العراق رقعة استراتيجية للمواجهة المقبلة بين الطرفين، مع استبعاد تصاعد التوتر، ليصل إلى مستويات خطيرة كما كان الحال إبان إدارة الرئيس ترامب.
(القدس العربي)