شغلت فكرة "البطولة" العقاد في معظم كتبه ومقالاته الكثيرة على اختلاف مواضيعها ومجالاتها.
وليس في ما أعرف أن أديبا عربيا اهتمّ بهذه الفكرة، وسيطرت عليه، موضوعاً ومنهجاً، كالعقاد، فراح يبحث في سير العظماء من كل زمان ومكان، عن دوافع البطولة، وصفات الأبطال، في محاولة منه لأن يفهم السرّ الذي يميّز الأبطال، ويرفعهم درجات فوق الناس "العاديين".
راح العقاد يفتش عن إجابة لهذا السؤال في بطون الكتب التاريخية، والفلسفية، وعلم النفس، والسياسية، والعلمية الطبيعية. ودرس سير الشخصيات الفاعلة والمؤثرة في التاريخ، العربي والغربي والآسيوي، قديمه وحديثه.
ودرس سير العلماء الأفذاذ والشعراء المبدعين. وكان في جهده البحثي مُكبّاً على معنى البطولة وصفات الأبطال وآليات عمل العقل العبقري، وكيفيات تفتّقه عن أعظم الأفعال، وأجمل الأقوال، وأهمّ الأفكار.
انشغال العقاد بفكرة البطولة ومعانيها، وإفراده عدداً كبيراً من عناوين كتبه لسير الأبطال، يتجاوز ويزيد على انشغالات الباحث والمؤرخ بموضوعه العلمي. فقد كان معنياً على نحو شخصي بالبطولة وهالاتها ومسوحها وبريقها.
وأغلب الظن أنّ فكرة الخلود الملازمة للبطولة كانت تثير هوسه بالأبطال وإنجازاتهم. وكان يخطط في طفولته للسير في أقصر طريق إلى البطولة، وأكثرها ازدحاماً بأسماء الأبطال المخلّدين في التاريخ، وهي طريق العمل العسكري.
يقول العقاد عن أحلام طفولته: "هدفي في الحياة، كان في الصبا أن أتولّى القيادة العسكرية".
وحين استقرّ على السير في طريق الأدب، لم يكتف بأن يكون شاعراً أو ناقداً، بل شاعراً ناقداً صاحب مدرسة في النقد والشعر.
ولم يقف عند الشعر ونقده، بل كتب السرد الإبداعي، والمقالة الصحفية في مواضيع شتى، وألف في الثقافة والسياسة والسيرة والتاريخ.
وخاض على صفحات الصحف والمجلات معارك أدبية، فأصاب وأصيب، وجرّح وتجرّح، وكأنه في معاركه الأدبية يستجيب لحلم طفولته بأن يكون بطلاً.
اقرأ أيضا: لويس عوض.. ومعركة أصل العرب ولغتهم
حبّ العقاد للبطولة قاده إلى دراسة التاريخ الإسلامي من مدخل شخصياته العظيمة، واختار للدراسة منهجاً يقوم على تقصي الصفة الرئيسة التي تطبع العظماء، وتشكل عنواناً لبطولتهم.
وأطلق على هذا المنهج اسم "مفتاح الشخصية"، واستخدم فيه مبادئ التحليل النفسي، التي تأخذ بعين الاعتبار الظروف البيئية والاجتماعية والأسرية المحيطة بنشأة الشخصية، ومرجعياتها الثقافية، وخصائصها الجسدية، ليرسم صورة متكاملة لتكوينهم النفسي.
وقد سلك في منهجه مسلكاً مركّباً يقوم على الجمع بين عمل المؤرخ وعمل المحلل النفسي، فربط بين الحدث التاريخي والعامل الشخصي.
وهو منهج يقوم على جدلية التأثر والتأثير بين العوامل الموضوعية والعوامل الذاتية في صناعة مفاصل التاريخ وأحداثه الكبرى.
يعرّف العقاد "مفتاح الشخصية" بأنه "الأداة الصغيرة التي تفتح لنا أبوابها، وتنفذ بنا وراء أسوارها وجدرانها، وهو كمفتاح البيت في كثير من المشابه والأغراض..
فيكون البيت كالحصن المغلق ما لم تكن معك هذه الأداة الصغيرة التي تحملها في أصغر جيب. فإذا عالجته بها فلا حصن ولا إغلاق".
وظل هذا المنهج، القائم على تمييز الصفة الغالبة، يحدو العقاد في مطالعاته وتأملاته التحليلية لعظماء التاريخ.
وظلت معاني "البطولة" حاضرة في دوافع العقاد وهو يختار الشخصيات العظيمة ليكتب سيرتها، في تاريخ الإسلام المبكّر، وفي التاريخ السياسي الحديث، وفي الشعر الأموي والعباسي، وفي الفلسفة والعلوم.
ففي مقدمة كتابه "عبقرية محمد" يذكر العقاد أنه اطلع على كتاب "الأبطال وعبادتهم" للمؤرخ الأسكتلندي "توماس كارلايل" (1795-1881).
فرأى العقاد ضرورة الكتابة عن شخصية النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) من زاوية المؤرخ المعاصر المسلم ليصحح الصورة التي رسمها المؤرخ الغربي، "وفحواها أن بطولة محمد إنما هي بطولة سيف ودماء".
ميز العقاد في "عبقرياته" وتراجمه، بين البطولة بمعناها الأخلاقي وأهدافها السامية، والبطولة المجرّدة من الأخلاق، والمدفوعة بحب القهر والغلبة والسيطرة "وأن البطل الذي يخوض الحرب ذوداً عن الحق والعقيدة أكرم جداً من كل بطل يقتحم الحروب ليقال أنه دوّخ الأمم وفتح البلدان".
مفتاح الشخصية الإنسانية لنبي الإسلام "الأريحية والرجولة"، فكان "مثالاً نادراً لجمال الرجولة العربية". والصفتان مفتاح لعطفه وتسامحه وزهده، وقوته وشجاعته وإصراره.
ومفتاح شخصية أبي بكر "قوة العاطفة والإعجاب بالبطولة". والصفتان مفتاح لعصبيته وحدة مزاجه وحماسته وإخلاصه في الحفاظ على تركة النبي.
رأى العقاد أن بطولة أبي بكر تكمن في "الإعجاب بالبطولة"، وهو فرع من فروع البطولة، يلجأ إليه من كان لا يملك صفات البطولة الكاملة، فيقتفي آثار الأبطال، ويواصل شقّ الطريق على النحو الذي رسموه، مسلحاً بالإيمان الشديد بالمبادئ التي وضعوها "ليس بعد البطولة منزلة يشرف بها الإنسان من منزلة الإعجاب بالبطولة والركون إليها.
فالرجل الذي ينهض له البرهان النفساني على الثقة ببطل من الأبطال، فيثق به ويعينه على عمله، ليس بالرجل الذاهب على غير هدى والآخذ بغير دليل".
ينظر العقاد إلى الشخصية العبقرية في التاريخ الإسلامي، ببعديها الشخصي المطبوع بخصائص نفسية تؤهلها للقيادة، واللاشخصي الملهَم.
ولا يمكن فهم العبقرية الإسلامية إلا بالجمع بين البعدين، "الديني الذي يفهمه المسلم وحده، والإنساني الذي يشترك فيه جميع الناس".
العبقرية الإسلامية في منهج العقاد هي مقابل البطولة في منهج المؤرخ الغربي. وهي نوع من التكوين الشخصي الفريد المعزز بالإلهام.
وإذا كانت البطولة عند المؤرخ الغربي تعبير مادي عن صفات القوة والشجاعة والإرادة والذكاء والتفوق، فأن العبقرية الإسلامية تضيف إلى هذه الصفات بعداً فوق المادي، يضع النبي (صلى الله عليه وسلم)، وخلفاءه الراشدين من بعده، في مصاف الصانعين للتاريخ، وأصحاب الرسالة السامية في الوقت عينه، والمبرّئين من أهواء العظمة وعبادة الذات والمآرب الخاصة.
عناية العقاد بالشخصيات العظيمة ملفتة للنظر، فالتاريخ من وجهة نظره تصنعه النفوس العظيمة ذات الإرادة القوية.
والإنجازات العلمية والإبداعات الأدبية تحققها العقول الجبارة ذات المواهب العبقرية.
والقرارات الدافعة لسيرورة التاريخ، والمؤسسة لما بعدها، يتخذها رجال من طينة خاصة، مجبولة بعناصر مضاعفة من الشغف والثقة والإيمان والحماسة لرؤيتهم وقضيتهم.
مفتاح الشخصية في منهج العقاد ليس هو الشخصية، فقد يتشابه المفتاح وتختلف الشخصيات باختلاف العوامل الأخرى المكونة لها، وهي عوامل كثيرة ومعقدة وغامضة، ولا يمكن تفسيرها بصفة واحدة عامة أو صفتين، قد يشترك فيهما كثير من العباقرة أو الأبطال.
ومثل هذا الاختزال لتعقيدات النفس الإنسانية في عنوان واحد جامع يؤدي إلى تسطيح التحليل وتعميمه كما يفعل المنجّمون الفلكيون.
ولذلك استدرك العقاد بملاحظة منهجية ضرورية للتفريق بين مفتاح الشخصية، والشخصية نفسها: "وليس مفتاح البيت وصفاً له، ولا تمثيلاً لشكله واتساعه، وكذلك مفتاح الشخصية ليس بوصف لها، ولا تمثيلاً لخصائصها ومزاياها، ولكنها أداة تنفذ بك إلى دخائلها ولا تزيد".
ويذكر العقاد مثالاً على تشابه المفتاح مع اختلاف الشخصية، "فطبيعة الجندي" التي حددها مدخلاً لشخصية عمر بن الخطاب، وتجتمع فيها صفات "الشجاعة والحزم والصراحة والخشونة والغيرة على الشرف والنجدة والنخوة والنظام والطاعة وتقدير الواجب والإيمان بالحق وحب الإنجاز في حدود التبعات أو المسؤوليات"، هي نفسها المفتاح الأصلح لشخصية خالد بن الوليد برغم الفوارق الكبيرة بين الشخصيتين، فابن الوليد لا يرقى في ميزان "الخلق والتفكير" إلى منزلة عمر.
وخلاصة الفوارق الشخصية الكامنة وراء المفتاح الواحد أن تنشئة عمر في عائلة فقيرة مستضعفة جعلت منه جندياً ذا ضمير وأخلاق، بينما جعلت تنشئة ابن الوليد في قبيلة ثرية مستقوية منه جندياً مجبولاً على القسوة والعنف في تنفيذ الواجبات والدفاع عن الحق.
أجرى العقاد منهجه في التحليل النفسي على شخصية الزعيم الألماني "هتلر"، ومفتاحها الشيزوفرينيا والهستيريا، وهي أشد الأمراض النفسية وطأة على النفس البشرية.
وخلص إلى أن بطولته نموذج للبطولة المجردة من الأهداف السامية، وتقع على الطرف النقيض في معانيها من بطولة القادة المسلمين. والفارق الأهم من وجهة نظر العقاد بين نموذج البطولة الإسلامي والألماني، يكمن في أن الثاني وثب على البطولة وثباً، مستفيداً من الحظوظ التي هيّأتها له ظروف الزمان والمكان والبيئة التي نشأ وعاش فيها، فكانت بطولته ثمرة ناضجة غصبها غصب الملهوف على السلطة، وقطفها قطف المهووس بجنون العظمة، فكانت بطولته هدّامة دفعت الحضارة البشرية ومنجزاتها إلى الوراء.
أما بطولة المسلمين فكانت بطولة حقيقية شقت طريقها في أرض جدباء وعرة، وزرعت في البيئة الاجتماعية المتخلفة بذوراً جديدة، وأثمرت نظاماً من القيم والأخلاق، عززت مكانة الإنسان، ومهدت لحضارة إنسانية عظيمة.
مع اقتراب الذكرى السابعة والخمسين لوفاة العقاد، في الثالث عشر من آذار/ مارس القادم، تتجدد "بطولة" العقاد في خاطر الأجيال التي تتلمذت على مؤلفاته، وتربّت معرفياً على "عبقرياته".