في مقالنا «ترامب طريد المؤسسة»، الذي نشر قبل أسبوعين من نهاية محاكمة دونالد ترامب الثانية في مجلسي النواب والشيوخ الأمريكيين، توقعنا بالنص والحرف «سقوط الإدانة وتبرئة ترامب، حتى بعد رحيله عن الرئاسة، وفوز ترامب بالبراءة للمرة الثانية، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الرؤساء الأمريكيين».
وقد تحققت البراءة بالفعل، ومن دون أن يعني ذلك توقف مطاردة المؤسسة الحاكمة لترامب، الذي تنتظره ملفات مفتوحة في محاكمات جنائية، من نوع التحايل والتهرب الضريبي في محاكم ولاية نيويورك، أو التورط في الضغط على مسؤول في ولاية جورجيا، كان ترامب ـ وهو في الرئاسة ـ يأمره في مكالمة مسجلة بإضافة 11 ألف صوت لحسابه، إضافة لدعاوى جنائية في قضايا تحرش واعتداء جنسي قديمة متنوعة، مع إمكانية محاكمة ترامب جنائيا في قضية التمرد واقتحام مبنى الكونغرس، وسقوط قتلى وجرحى يوم غزوة 6 يناير الفائت، إلى غيرها مما يقلق راحة ترامب في منتجعه الفخم في «مارالاجو» بولاية فلوريدا، فهو لا يضمن أن يصاحبه «حظ العوالم»، الذي صادفه في محاكمات الكونغرس، وجعله يفوز سياسيا، حتى بعد إخفاقه الانتخابي وفقدان سلطانه الرئاسي.
وفي مصر يطلقون تعبير «حظ العوالم» تندرا على حالات مشابهة لوضع ترامب، و»العوالم» في العامية المصرية جمع «عالمة»، والعالمة هي الراقصة المشهورة سيدة مجالها، وقد تأتي من أوساط وبيئات غاية في الفقر والتواضع، لكنها تقفز إلى ثروة مهولة، وتصبح من علية القوم في لمح البصر، وتحرك الكبار المحنطين بإشارة من طرف الإصبع، تماما كترامب الذي ظل معزولا وحيدا في منتجعه منذ ترك البيت الأبيض.
لكنه أرغم الكبار المعتقين في الحزب الجمهوري على طاعته، والحيلولة دون إدانته في المحاكمة الثانية بمجلس الشيوخ، تماما كما جرى في المحاكمة الأولى، وهو في مقعد الرئاسة، وفي المرتين، كان الديمقراطيون هم الذين صاغوا قرار الاتهام، وهذه مهمة مجلس النواب، وكان للحزب الديمقراطي أغلبية فيه، تناقصت مع الانتخابات الأخيرة، رغم فوز مرشحهم جو بايدن بالرئاسة، لكنها ظلت كافية لتوجيه قرار اتهام ترامب بالتمرد، وبهدف عزله سياسيا في المحاكمة الأخيرة، ومنعه من تولي منصب تنفيذي أو تشريعي في المستقبل، طبقا لنص التعديل الرابع عشر في الدستور، وهو ما لم يتحقق، مع الانتقال من الاتهام إلى المحاكمة في مجلس الشيوخ، بسبب ميل غالبية مشرعي الحزب الجمهوري إلى تبرئة ترامب، وكان يلزم انحياز 17 عضوا منهم إلى الإدانة، حتى تحوز نصاب الثلثين المطلوب، وهو ما لم يحدث، ليس حبا في ترامب، الذي أدانه صراحة ميتش ماكونيل زعيم الكتلة الجمهورية في مجلس الشيوخ، لكنه رفض التصويت لصالح الإدانة رسميا، خوفا من غضب ترامب، المقاول والملياردير، الذي تحول للمفارقة إلى رمز سياسي، صار له التأثير الحاسم في قواعد الجمهوريين، وبيده مفاتيح الفوز أو الفشل لكبار الجمهوريين في أي انتخابات تشريعية مقبلة، وأولها انتخابات التجديد النصفي لمجلسي النواب والشيوخ أواخر العام المقبل 2022، التي يريدون الفوز بها لكسر سيطرة الديمقراطيين على الكونغرس بمجلسيه.
ثم إن الحزب الجمهوري يبدو بلا رأس صالح لخوض انتخابات الرئاسة المقبلة عام 2024، وقد يضطر إلى إعادة اقتراض ترامب، ليخوض عنه المنافسة الرئاسية، رغم أن ترامب ليس عضوا قديما في الحزب الجمهوري، وقد سبق له المرور عابرا على عضوية الحزب الديمقراطي والتبرع له، ودونما اقتناع بفكرة هذا الحزب أو ذاك، فالرجل ابن الصفقة لا سليل الفكرة، وعلاقته بالسياسة أضعف كثيرا من عشقه لبرامج تلفزيون الواقع، وقد برع فيها، وصار نجمها الأشهر المنافس لعارضة الأزياء الداخلية كيم كارداشيان، وقد استضافها ترامب بالبيت الأبيض في مارس 2020، رغم أنها كما تقول من المناصرين للحزب الديمقراطي المنافس.
ويتميز ترامب ببلاغة لسان ديماغوجي ذرب، وبطريقة كلام ولغة جسد تشبه «رعاة البقر» في أفلام «الويسترن» الهوليوودية، جعلته زعيما محبوبا، مفضلا لجماعات تفوق العرق الأبيض، التي تشاركه زعمه بسرقة وتزوير الانتخابات الرئاسية الأخيرة لصالح بايدن، الذي بدا حزينا مفجوعا لتعذر إدانة ترامب في جريمة الاقتحام المسلح لمبنى الكونغرس، وتحدث مجددا عن ديمقراطية أمريكا «الهشة»، فيما وصفت نانسي بيلوسي زعيمة الديمقراطيين الشرسة يوم تبرئة ترامب بأنه «أكثر الأيام خزيا في تاريخ أمتنا»، لكن استطلاعات الرأي العام كان لها قول آخر، فأكثر من نصف الأمريكيين الشبان مع تبرئة ترامب، والغالبية الساحقة من الجمهوريين، وبنسبة تصل إلى 85%، لا يرون زعيما لهم أجدر من ترامب، وابن ترامب «دونالد جونيور» غرد على «تويتر»، وكتب (2 ـ صفر) على طريقة نتائج المباريات الرياضية، وأرفق مع التعليق صورة مصنوعة لأبيه، بدا فيها كالملاكم مفتول العضلات، فيما بدا ترامب نفسه منتشيا بالنجاة مما سماه «الاضطهاد السياسي الانتقامي»، عبر محاكمتين في الكونغرس خلال عام واحد، انتهتا إلى لا شيء يدينه رسميا، وأعطتا له دور الضحية المطاردة من المؤسسة الحاكمة، المعبرة في الجوهر عن مصالح المجمع العسكري الصناعي التكنولوجي، التي لم يتخلف طرف فيها عن المشاركة بكتم صوت ترامب بعد حادثة غزو الكونغرس، وحرمته من الظهور نهائيا على وسائل التواصل الاجتماعي، وبما قد يعطي دفعة إضافية لدعوى ترامب الأصلية عن فساد مؤسسة واشنطن، أو ما يسميه البعض بالدولة الأمريكية العميقة، التي تحملت بضجر تصرفات رئاسة ترامب المنفلتة، إلى أن نفد الصبر، ووجدت المؤسسة ضالتها بعد هزيمة ترامب الانتخابية رسميا، التي لم يعترف بها هو ولا أنصاره إلى اليوم، فلا تزال استطلاعات الرأي المتوالية تسجل انشقاق جمهور الناخبين، ونصفهم يعتقدون بتزوير الانتخابات، وهي فكرة تعاود انتعاشها بعد تبرئة ترامب الأخيرة، وإعلانه عن البدء مجددا بما يسميه «حركتنا الوطنية الرائعة من أجل أمريكا عظيمة مرة أخرى»، وبما يوحي باحتمال عودة ترامب إلى لعبته المفضلة، وغرامه بجعل نفسه محورا للحوادث والأخبار، مع إعلان المقربين منه عن استعداده للإدلاء بحوارات تلفزيونية، قد تتسارع إليها وسائل الإعلام الكبرى، وتشغل بها أوقات البث والاهتمام، خصوصا أن الرئيس الحالي بايدن يبدو شخصا باهتا، فاز فقط بتجميع الأصوات الكارهة لترامب وفظاظته الشخصية، ولا توحي تصرفاته الرتيبة بمنحه كاريزما يفتقدها، ولا بالخلاص من لعنة كونه ظلا للرئيس الأسبق باراك أوباما، ولم يصل بايدن بعد إلى بصمة تخصه، فهو موزع بين إرث رئيسه السابق أوباما وإرث ترامب نفسه، وقد ترك له الأخير معضلة جائحة كورونا، التي تواصل افتراسها لأمريكا، ولم يتحقق فيها بعد نجاح لافت فارق عن أيام ترامب، ويتوقع فريق بايدن أن يصل عدد المتوفين الأمريكيين بكورونا قريبا جدا إلى 600 ألف شخص، رغم تراجع إجمالي الإصابات وتحصين عشرات الملايين باللقاحات، إضافة لاستمرار زحف الصين الاقتصادي العظيم، وإطاحتها بأمريكا مؤخرا من فوق عرش سباق التبادل التجاري مع الاتحاد الأوروبي، وثبات ألمانيا على اتفاقية خط «نورد ستريم 2» لنقل الغاز الطبيعي من روسيا، وعسر التوجه لإعادة الانضمام إلى الاتفاق النووي الإيراني، كما وعد بايدن في حملته الانتخابية، بسبب تراكم ألغام وعقوبات ترامب على الطريق إلى طهران، وتردد بايدن في مخالفة وجهة نظر كيان الاحتلال الإسرائيلي، الذي منحه ترامب قدما في الخليج، باتفاقات إبراهام مع الإمارات والبحرين، فنهج ترامب لا يزال مؤثرا وعائقا في سياسة أمريكا الخارجية، ناهيك من ثبات تأثيره في الداخل الأمريكي، فلا يملك بايدن حتى اليوم، سوى استمرار الشكوى من خطورة جماعات تفوق العرق الأبيض، وسوى التحذير من جرائم حمل السلاح الفردي المقرر بحكم الدستور، ويناصره ترامب إلى أبعد مدى، ويكسب به شعبية مضافة، فوق ارتباط اسمه بالحرب الاقتصادية مع الصين، التي توالي قفزاتها الكاسحة لمكانة اقتصاد أمريكا كونيا.
وقد يحتاج ترامب إلى «حظ عوالم» إضافي، ينقذه من مطاردات المحاكمات الجنائية المتعددة، تماما كما أنجاه من محاكمات الكونغرس، التي لجأ محاموه فيها إلى سلوك استعراضي ذكي، ولم يستخدموا من الوقت الممنوح لهم البالغ 16 ساعة، سوى ساعتين ونصف الساعة فقط، اكتفوا فيهما بنماذج موثقة من شيوع الاستخدام السياسي لتعبير «القتال» المتهم به ترامب، الذي كان الديمقراطيون أسبق إليه، ودعوا جميعا إلى «القتال» بدون أن يحاكموا، بمن فيهم الرئيس الحالي بايدن.
عن القدس العربي