كما ذكرنا في المقال السابق، لم تبدأ النهضة في عصر إبراهيم طوقان من الفراغ، بل سبقتها بذور وجذور واكبت عصر النهضة في البلاد المجاورة، وأسست لجذورها في فلسطين.
هذه البذور والجذور كانت على قدر كبير من الأهمية في المجتمع، سواء بعملها الخاص أو بالشعر. وغنيّ عن القول، إن منزلة الشعر قديماً وحديثاً كبيرة، لما لهذا الفن من سلطان عند العرب لا ينازعه إياه فنّ آخر. وهذا الاهتمام الكبير بالشعر الذي يرتبط بكل مرافق الحياة ومناحيها جعله سابقاً في نهضته لبقية الفنون.
ويرى كامل السوافيري أن فترة السنوات السبع الأولى للاحتلال البريطاني (1918- 1925) تعتبر مرحلة انتقال مهدت للنهضة في فلسطين. وبمقدمتها نهضة الشعر الفلسطيني، والتي برزت ماثلة للعيان ابتداءً من الربع الأول من القرن العشرين. ولأن بذور النهضة نبتت خلال هذه الفترة، ثم اكتملت في الشعر بعدئذٍ العناصر الفنية للشعر الجديد. وبات تعبيراً صادقاً عن وجدان الشاعر وإحساسه وانطباعاته، وانفعالاً مع وقع الأحداث على قلبه، ولم تعد تمرّ مناسبة أو حدث إلا وفّاها حقّها من الشعر الصادق المطبوع، دون وجل من حاكم أو ممالأة للظالم، أو تهرّب من واجب، بل انسجاما مع الإحساس والهدف..
وقد اشتُهر عدد من أعلام الشعر في أواخر العصر العثماني، إلا أن اشتغالهم بالشعر لم يكن له أولوية، إلا القليل منهم، وهم الذين قصدناهم بالبذور المعمّمة، وسوف نأتي على ذكر هؤلاء الشعراء الأعلام في مقالات لاحقة (لقد أحصيت شخصياً أسماء خمسة عشر شاعراً كانوا أعلاماً في أواخر العصر العثماني).
غير أن أشهر من اشتغل بالشعر من هؤلاء هم خمسةٌ معممون، أي أنهم شيوخ (فقهاء وقضاة) درسوا في الأزهر الشريف (هم بداية موضوع هذه السلسلة)، وهم: الشيخ يوسف النبهاني، والشيخ سعيد الكرمي، والشيخ علي محمود الريماوي، والشيخ سليم اليعقوبي (أبو الإقبال)، والشيخ سليمان التاجي الفاروقي.
غير أن الواجب يفرض علينا أن لا يقتصر الحديث عن الشعراء الخمسة بوجود عدد غير قليل من الشعراء المعممين وغير المعممين (الأفندية)، والواجب أن تكون هذه السلسلة توثيقية لشعراء ما قبل الحرب العالمية الأولى، الذين كانوا أيضاً ضمن بذور النهضة.
ولا بد أيضاً من الإشارة إلى أن هذه المادة ليست موسوعية لجميع الشعراء (الغث والسمين)، بل هي انتخابية لأبرز الشعراء، نترجم لنذر يسير من حياتهم، مع اعتقادي أن هذا الأمر يحتاج مشروعاً كبيراً تنفذه لجنة رسمية عليا أو مركز دراسات لإصدار "معجم شعراء فلسطين"، الذي سيضم بالتأكيد مئات الشعراء إن لم يكن بالآلاف مع تفاصيل أكثر عن حياتهم وأشعارهم وبيئاتهم..
وكتدليل على قلة وجود مصادر معجمية، هي أنني أستقي مادة هذه الشخصيات من مصادر سياسية وتاريخية، وليس مصادر أدبية.
السؤال الحديث: إلى أي حد يمثل شعراء هذه الفترة فلسطين، وهل تنطبق على أشعارهم صفة "الشعر الفلسطيني"؟ خصوصاً أن وجودهم ووجود قصائدهم كانت قبل مؤامرة "سايكس بيكو" وتقسيم المنطقة إلى دول وأقطار، وكيف كانوا سينظمون الأشعار لفلسطين وهي غير محددة على الخارطة؟ وهذا أحد أسباب ظهور الجنسية والانتماء للشعر الفلسطيني في أثناء الاحتلال البريطاني، ولم يكن موجوداً في العصر العثماني.
إذن، تصنيف هؤلاء الشعراء تمّ حسب البقعة الجغرافية التي ينتسبون إليها، وليس حسب الحدود السياسية والقضايا الوطنية. ولكن لا يمكن قطع حبل الوصل مع شعراء ما قبل "سايكس بيكو"، خصوصاً إذا عرفنا أن شعراء ما بعده ورثوا الشعر عن آبائهم، مثل أبي سلمى الكرمي وعبد الرحيم محمود.
أكتب هذا التأريخ للشعر والشعراء الفلسطينيين، ليس من باب التوثيق فحسب، وإنما أيضا لتتبع صورة فلسطين كفكرة صاغها الشعراء والمثقفون باعتبارهم نخبة المجتمعات في كل حين، وأن ما ينتجونه في النهاية هو ديوان مجتمعاتهم..
وللحديث بقية، مع ترجمات هؤلاء الشعراء.
*كاتب وشاعر فلسطيني
مثلث حيفا.. قصة صمود فلسطيني ورعب صهيوني
جامعات فلسطين.. معاناة بالتأسيس ودور أكاديمي ووطني في الصمود
كم عدد الانبياء الذين دفنوا في فلسطين؟