قضايا وآراء

التلاعب بقوت المواطنين!

1300x600
تقع على عاتق الدولة، أيّ دولة، العديد من المسؤوليّات الحيويّة والضروريّة، وفي مقدّمتها توفير الأمن والغذاء والدواء والتعليم والخدمات للمواطنين.

وتتشرّف الدولة الصافية والنقيّة بأنّها تعمل من أجل تأمين الظروف الجيّدة لحياة إنسانيّة مليئة بصور الخير والعافية، والعلم والسلام. وعلى خلاف ذلك نجد أنّ الدولة الملوّثة تحارب الطمأنينة والحياة الحرّة الكريمة، وتنشر الجوع والخراب والجهل والإرهاب بين المواطنين!

تعاني الدولة العراقيّة منذ عشر سنوات من آفة الفساد الماليّ الذي نخر الموازنات الخياليّة والذخائر الاستراتيجيّة، وهي اليوم قاب قوسين، أو أدنى من مرحلة الإفلاس، ونتيجة لذلك عجزت حكومة بغداد، منذ ثلاثة أشهر، عن سداد رواتب الموظّفين واضطرّت للاقتراض الخارجيّ والداخليّ لتأمينها، مع وصول مديونيات العراق الخارجيّة والداخليّة إلى 160 مليار دولار!

وفي ظلّ هذه الأزمة المركّبة، تحاول حكومة مصطفى الكاظمي معالجة الأمور بأساليب غريبة وغير علميّة، وربّما ستزيد من الخراب الاقتصاديّ المتفشّي في عموم البلاد!

ومن هذه الأساليب الغريبة ما أعلنه وزير الماليّة علي علاوي في التاسع عشر من كانون الأوّل/ ديسمبر 2020 بخصوص تخفيض سعر صرف الدينار العراقيّ أمام الدولار، ليصل إلى 1450 ديناراً للدولار الواحد، بحجّة أنّه يسمح للعراق بإعادة التوازن إلى اقتصاده على خلفيّة سعر أكثر تنافسيّة!

ولم تتوقّف "الإصلاحات" الحكوميّة عند هذا الحدّ، بل ذهبت إلى فرض ضرائب واستقطاعات على الموظّفين، وقد قرّرت الحكومة في اجتماع الأربعاء الماضي خصم ٤٠ في المئة من رواتب الرئاسات الثلاث، و٣٠ في المئة من رواتب النوّاب والوزراء والدرجات الخاصّة، و٨ في المئة من الموظّفين الذين يزيد رواتبهم عن ٥٠٠ ألف!

ولكنّ الحكومة، بالمقابل، لم تذكر أنّ مجموع رواتب رئيس الجمهوريّة خلال أربع سنوات تصل إلى ثلاثة ملايين و504 آلاف دولار، فيما تبلغ رواتب رئيس الوزراء للدورة الرئاسيّة الواحدة ثلاثة ملايين و120 ألف دولار، وتناهز رواتب الوزراء نحو مليون و344 ألف دولار أمريكيّ!

أما "ممثّلو الشعب" من البرلمانيّين، فإنّ رواتبهم خلال سنوات الدورة البرلمانيّة الأربع تصل إلى مليونين و"112 ألف دولار أمريكي!

ولا يمكن أيضاً تغافل "آفة" رواتب المستشارين، حيث يعدل راتب المستشار الواحد رواتب عشرات الموظّفين في بقيّة الدوائر، وغالبيّتهم غير منتجين!

ومن هنا نقول: ما هو دور أكثر من 70 مستشاراً لرئيس الوزراء. وكم عدد مستشاري رئيس الجمهوريّة ورئيس البرلمان؟

الخطوات الحكوميّة فتحت الباب على مصراعيه لموجة غضب شعبيّ في عموم العراق، وبالذات مع قناعة غالبيّة المواطنين بأنّ الخلل في إدارة البلاد أوصل الأمور لمراحل الانهيار الخطيرة الحاليّة!

تواصل الغضب الشعبيّ دفع أكثر من 150 نائبا لتقديم طلب إلى رئاسة البرلمان لعقد جلسة استثنائيّة، لمناقشة تداعيات خفض قيمة الدينار، وأن تعقد الجلسة بحضور رئيس الوزراء، ووزير الماليّة، ومحافظ البنك المركزيّ مصطفى الجبوري، والطامّة الكبرى أنّ الجلسة لم يحضرها سوى 15 نائباً فقط، وحتّى الذين وقعوا على الطلب غابوا عن جلسة الثلاثاء الماضي الاستثنائيّة!

العجيب أنّ بعض القوى الحاكمة طالبت التجّار بأن لا يتلاعبوا بالأسعار وبالذات الموادّ الغذائيّة منها، وهي تعلم جيداً بأنّ غالبيّة الموادّ الغذائيّة والصناعيّة والتجاريّة والصحّيّة تستورد من الخارج، فكيف يمكن ضبط السوق في وقت ترفع الحكومة أسعار الدولار؟

السياسات الماليّة العشوائيّة وتغوّل "مافيات الخراب الماليّ الرسميّ" على مزاد العملة في البنك المركزيّ يكلّف خزينة العراق ما لا يقلّ عن 20 مليار دينار عراقيّ يومياً، بسبب فرق الصرف بين سعر البنك والسوق، وهذه الكارثة مستمرّة منذ أكثر من عشرة أعوام!

مَنْ يُريد أن يضبط السوق عليه أن يبدأ بعمليّة تنظيف سُلّم الفساد من الأعلى إلى الأسفل، وأن يعالج ملفّ البنوك الوهميّة أو الهجينة، أو حتّى العميلة التي تُهرّب مليارات الدولارات إلى الخارج، كما حدث في العام 2019 حيث تمّ بيع 44 مليار دولار في مزاد العملة التابع للبنك المركزيّ العراقي بينما كانت قيمة الاستيراد 18 مليار دولار، وهذا يعني "تهريب" 26 مليار دولار من العملة الصعبة إلى خارج البلاد!

مَنْ يُريد أن يمسك زمام الأمور عليه أن يقضي على الإرهاب الماليّ، وأن لا يتهاون مع المُتلاعبين بقوت المواطنين، دون النظر لمناصبهم، لأنّهم لا يقلّون خطورة عن الإرهابيّين الذين يقتلون الأبرياء ويُرهبونهم!

فمَنْ يَجرُؤ على هذه الخطوة الضروريّة؟

twitter.com/dr_jasemj67