مع الانخفاض المطرد في قيمة العملة الوطنية في الدول العربية المأزومة
يرفع الآباء مصروف الجيب اليومي الذي يعطونه لأبنائهم، من خمس "ليرات" مثلاً،
إلى عشر، فمئة، فألف. ومن ناحية الابن تلميذ المدرسة تزداد حيرته أمام خياراته الاستهلاكية،
وهو يحمل في جيبه ورقة نقدية عليها رقم يتكون من أربع أو خمس خانات، لكنها لم تعد كافية
لشراء الساندويشة وعلبة العصير وكيس البطاطا الصغير، الأشياء التي كان يشتريها في السنة
الماضية بخمس "ليرات". ويحاول الأب أن يخفي عن ابنه معاناته نتيجة
"جنون الأسعار"، لكنّ الجائحة المالية إذا حلّت في دولة، فإن انتشارها يكون
سريعاً وشاملاً وعميقاً، والمعاناة منها لا تستثني التلاميذ الذاهبين إلى المدرسة،
وربّات البيوت المُدَبّرات، والعجائز والشيوخ الجالسين في مقاعدهم وإلى جانبهم حقيبة
مكتنزة بالأدوية.
يحدث الانخفاض في القيمة الشرائية للعملة الوطنية عندما تقرر الحكومة
أن المواطن بلغ "سنّ الفطام"، فتسحب عنه غطاء الدعم المالي الذي كان يمنحه
بعض الدفء المعيشي. وسواء كان الغطاء ثقيلاً أم خفيفاً، فإن سحبه فجأة يترك المواطن
عارياً في مواجهة موجات من غلاء الأسعار تفوق قدرته على تأمين حاجاته المعيشية. ومهما
كانت أسباب تدهور القيمة الشرائية للعملة الوطنية، اقتصادية، أم سياسية، أم مزيجاً
من السياسات والعوامل الداخلية والخارجية، تظل النتيجة واحدة، من حيث الاستجابة الشعبية
المحلية لهذا التدهور، ومن النواحي المتعلقة بشؤون الحياة اليومية والمعيشية للناس،
وردود فعلهم تجاه أوراق البنكنوت التي تمثل رأسمالهم النقدي، والمعادل المادي لكدّهم
وعرقهم ووقتهم الطويل في العمل والكسب.
حين تفقد العملة قيمتها يفقد المواطن الكادح جزءاً كبيراً من قيمته
الإنسانية، يفقد أمنه المعيشي، وتنكمش آماله، وتضطرب أحلامه، وتتلاشى ابتسامته التي
اعتاد أن يبدأ بها يومه وينهيه. كيس الفاكهة الذي اعتاد أن يحمله إلى أطفاله يتبدّل
نوعه، أو يخفّ وزنه. وكلما ازدادت سماكة الأوراق النقدية التي يقبضها كل شهر، نقصت
الأرغفة التي تضعها زوجته على مائدة العشاء اليومية.
الاقتصاد هو أهم العلوم على وجه الأرض، وأكثرها غموضاً في الوقت نفسه.
وفي حين يمكن للمواطن البسيط أن يترك العلوم الأخرى لذوي الاختصاص فيها، كالطب والتكنولوجيا
والشريعة والقانون والسياسة، لأنها، وإن كانت ضرورية ومؤثرة في حياته، إلا أنها ليست
شاملة التأثير في حاجاته الأساسية، وهي ليست المأكل والمسكن والأمن الأسري فقط، وإنما
تَوفَّر الأشياء التي اعتاد على توفرها في حياته اليومية أيضاً، وأي نقص فيها يخلخل
حسه الضروري بالاستقرار، ويحوله من إنسان مطمئن إلى إنسان قلق.
ثبات العملة الوطنية يعني ثبات المعادلة المعيشية للمواطن، وهي أساس
النظريات الاقتصادية الاجتماعية منذ زمن ابن خلدون إلى زمن دونالد ترامب؛ فرص العمل
تساوي الاستقرار المعيشي، والاستقرار المعيشي يساوي الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
وتوفر الأسواق وثبات الأسعار والحفاظ على القدرة الشرائية للنقود، كلها مؤشرات قياسية
داخل المعادلة المعيشية. وليس غريباً إطلاق وصف "جنون الأسعار" للتعبير عن
وجود خلل في النظام الاقتصادي. وهو مؤشر على حالة الجنون السلوكي التي تصيب المواطنين
عند تحسسهم لأي خلل في استقرارهم المعيشي.
يضرب الاقتصاد في العصب النفسي والعقلي للأفراد والمجتمعات. يعرف هذه
الحقيقة أتباع كارل ماركس وأتباع آدم سميث مجتمعين، والصراع بين النظريات الاقتصادية
ما زال يدور حول سؤال واحد، هو أي النظريات أقدر على إرسال جيوش العمال والموظفين إلى
مراكز عملهم راضين مبتسمين؟ لكن النظريات الاقتصادية تجريبية في طابعها، مثلها مثل
العلوم الأخرى. وفي حين يجرّب الطب نظرياته على الفئران المخبرية، لا يجد الاقتصاد
غير المجتمعات البشرية مادة لتجاربه.
وبوصف الإنسان مادة من المواد الخاضعة للتجارب الاقتصادية على تنوّع
مكوناتها، وتقلّب ظروفها، وتذبذب نتائجها، يجد كاهله ينوء تحت عبء قروض لم يقترضها،
ولكن فرضتها عليه تجربة اقتصادية فاشلة. كما يجد أن "المختبر المركزي" المسؤول
عن السياسة النقدية قد قرر أن يضيف/ أو يحذف عدداً من الخانات الصفرية إلى مجموعة الأوراق
النقدية التي تعادل كدّه اليومي أو الشهري أو السنوي في العمل. وفي نهاية التجربة يجد
أن مدخراته القليلة المحفوظة في البنك خوفاً من أن تأكلها النيران، أو يسرقها اللصوص،
قد بخّرتها الظروف الغامضة التي أجريت فيها التجربة. وقد يجد أن معاشه التقاعدي لم
يعد كافياً لشيخوخة آمنة من ذل السؤال.
تنقل لنا صور الحياة من الدول العربية التي تعاني من نتائج التجارب
الاقتصادية الفاشلة، أشكالاً من التنازلات عن أهم ما يميّز الإنسان من صفات، من ضمنها
الكرامة والعفة والحياء وحماية الأطفال والأمانة والإيثار. نرى دولاً عربية تعوم على
بحار من النفط، ولا يجد المواطن فيها وقوداً يتّقي فيه برد الشتاء وحرّ الصيف. ودولاً
حَبَتها الطبيعة بأخصب الأراضي، ويقف مواطنوها في طوابير استبدال الطعام بالقسائم.
ودولاً ثروتها أيدي مواطنيها، وتغلق أبواب مصانعها في وجوههم، وتجبرهم على الهيام في
الأرض بحثاً عن فرصة عمل مغمّسة بالذل.
السياسة تدخل عاملاً رئيساً في أنماط التجارب الاقتصادية، لكنها لا
تفسّر المخرجات الواقعية لتلك التجارب. وكل محاولة لربط المخرجات الفاشلة للتجارب الاقتصادية
بالعوامل السياسة وحدها، لا تعدو أن تكون تبريراً للفشل. فلا الحروب، ولا العقوبات
الاقتصادية، ولا الانفجار السكاني، ولا الجماعات الإرهابية، ولا الأوبئة، تبرر انتفاخ
أطراف الأطفال جراء البرد، أو إصابتهم بفقر الدم، أو اضطرارهم لترك المدرسة للعمل في
مهن شاقة.
أكثر الأسماء تعبيراً عن المواطن العربي المقيم في مختبر التجارب الاقتصادية
هو اسم "رضا"، ليس لأن الخضوع المتكرر للتجارب علّمه القبول بما يُعطى له
فحسب، ولكن لأنها جعلته صبوراً أيضاً. والرضا كثيراً ما يقترن بالصبر في البنية النفسية
العميقة للمواطن العربي. وقد ألّف زياد الرحباني للمواطن العربي "رضا" أغنية
معروفة، يدعوه فيها إلى استخدام ذكائه الفطري في التكيف مع ارتفاع الأسعار:
"تغيّر هوانا وسعر كل شغلة غلي/ وخَسّة زارعها كنت ما عادت إلي
ومش هَم بعد اليوم إن بهدلني حدا/ صارت حياتي كلها شي بهدلي
وبعدك عنيد يا رضا وأصغر نصيحة بترفضا
اسمع يا رضا كل شي عم يغلا ويزيد/ مبارح كنا عالحديدة وهلق صرنا عالحديد..
الخسة لمْوصّلها بإيدي وسعرا مقيد بالجريدة/ حَطّولا أسعار جديدة وكل
يوم في سعر جديد/ عجّل كلها يا رضا"
"الخَسّة" هي الحد الأدنى من متطلبات العيش الذي يطالب به
"رضا". و"الحديدة" هي المستوى المعيشي المتحصل من نمط التجربة
الاقتصادية، ويعادل اللاشيء. و"الجريدة" هي وسيلة الإعلام الرسمية التي تستخدمها
السلطة السياسية في إبلاغ "رضا" بعدم تمكنها من توفير الحد الأدنى الذي يطالب
به. والحل الوحيد لردم الفرق بين ما يطلبه "رضا"، وما تعرضه السلطة، هو أن
يعيش على النمط الاقتصادي للصيادين في الأدغال، بمعنى أن يرضى بما يتوفّر له من قوت
يوماً بيوم، وأن لا يفكر في الغد، ولا يرفع سقف توقعاته، ولا يفتح فمه إلا عند توفّر
"الخسّة"، وإلا يغلق فمه ويصبر.