منذ سنوات، حين وقعت بيدي مختارات مترجمة من شعر الشاعر اليوناني يانيس
ريتسوس، مرفقة بسيرة حياته، قفز إلى ذهني سؤال بسيط: كيف لم يفز هذا الشاعر بنوبل؟
هو أولا شاعر من الطراز الأول، ليس لأن هذا رأيي فيه، بل لأنه رأي أكثر متذوقي الأدب
ونقاده، فلا نكاد نجد من يذكر الشعر اليوناني الحديث إلا ويضع ريتسوس من شعراء صفه
الأول، كما أن الرجل عاش حياة نضالية استثنائية، حتى أصبحت حياته ذاتها قصيدة لا تكاد
تتكرر.
وبينما أقرأ عنه بتركيز أكثر لكتابة هذه السطور، عثرت بجملة شهيرة قالها
الشاعر التشيلي بابلو نيرودا حين فاز بنوبل سنة 1971: "أعلم تمامًا أنّ ذلك الإغريقي
ريتسوس يستحقّها أكثر منّي". بدت لي الصدفة مدهشة، فنيرودا يشاركني الشعور ذاته
منذ زمن بعيد، فكيف ضلت نوبل طريقها إلى ريتسوس حتى رحل في يوم 11 نوفمبر 1990؟
لنتأمل الأمر قليلا.
ولد ريتسوس سنة 1909 لأسرة ثرية من النبلاء، سرعان ما فقدت ثروتها وقاست
شظف العيش، ثم أخذ السل يفتك بأفرادها؛ فمات به شقيقه الأكبر ووالدته سنة 1921، ثم
فقد أبوه عقله تحت ضربات الزمن فنقل إلى مصح بعدها بسنوات.
وفي سنة 1925 غادر ريتسوس القرية إلى أثينا باحثا عن عمل حتى يجد ما
يسد رمقه، ولم تكن مؤهلاته غير إنهاء المرحلة الإعدادية وتعلم الرسم والعزف على البيانو،
كما عانت العاصمة من كساد ما بعد الحرب العالمية الأولى فاضطر إلى مزاولة أعمال شاقة
ضئيلة الأجر، مثل أمين مكتبة في نقابة المحامين، وراقص وممثل مسرحي مغمور، وناسخ أوراق
في البنك الوطني، ثم مصحح وقارئ مخطوطات لدى ناشر يوناني. ساعده ذلك، رغم إرهاقه، على
قراءة الأعمال الأدبية العالمية.
لكن السل لم يمهله، فقضى في المستشفيات فترات وصلت إلى ثلاث سنوات.
لكن التأثير الأهم في حياته وقتها كان انضمامه إلى النادي العمالي، ذي التوجه اليساري.
ومرة أخرى يسوقه القدر إلى مصيره الشعري المجيد؛ ففي سنة 1936 تقمع الشرطة اليونانية
عمال إحدى شركات التبغ المضربين، وتقتل منهم قرابة الثلاثين عاملا، ثم يجد ريتسوس في
صحيفة يسارية صورة لأم تبكي على جثمان ابنها، العامل الشاب، وسط الشارع.
منذ تلك اللحظة انعطف شعره يسارا. قد يكون ذلك سبب حرمانه من نوبل،
التي تأثرت بوصلتها في تلك الفترة، بالحرب الباردة، ومالت بالطبع نحو المعسكر الغربي،
وفي ذلك كلام كثير ليس هنا محله.
كتب رائعته "المراثي" المهداة إلى أم الشهيد المجهول. وقد
نُشرت في كتيب، بيع منه في أسبوع واحد عشرة آلاف نسخة، فرد النظام العسكري الحاكم بمصادرة
القصيدة وإحراقها، على الطريقة النازية، أمام معبد زيوس الأولمبي في أثينا. تلك كانت
البداية فحسب، فقد دفع ريتسوس ثمنا فادحا لنضاله السياسي، فاعتقل من سنة 1948 حتى
1952، وخلال أول سنتين عذّب تعذيبا شديدا لم ينقذه منه سوى حملة تضامن عالمية قادها
الشاعر الفرنسي النبيل لويس أراغون، فاضطر النظام العسكري إلى نقله لسجن أفضل حالا
وسمح له بالرسم والكتابة.
وعلى إثر الانقلاب العسكري سنة 1967 اعتقل مجددا ضمن حملة اعتقالات
واسعة وقضى أياما سوداء في معتقل ياروس سيئ السمعة، ونقل إلى مستشفى لعلاج السرطان
سنة 1968، ثم أعيد إلى ياروس. وأفرج عنه عام 1970 بعد حملات تضامنية قادها أراغون مرة
أخرى، وسببت صداعا للدكتاتورية العسكرية التي تتفنن في تعذيب شاعر كبير ومريض.
غير أن الذي يهمني من ذلك كله هو هذا السؤال: إذا كان ريتسوس قد واجه
فَقْد الأسرة، ثم السل، ثم السجن والتعذيب سنوات طويلة، ثم السرطان، فكيف أثّر ذلك
في وعيه الشخصي باعتباره شاعرا يساريا، ومن ثم كيف أثر في صقل تجربته الشعرية؟
الذين اختبروا تجربة السجن يعلمون أن الفنانين لا ينجدهم في السجون
شيء كما ينجدهم فنهم، أولا لقتل الملل الرهيب الجاثم على السجين، الذي يقضي وقته كله
في زنزانة قبيحة، معزولة تماما عن العالم. هكذا يشعر أي سجين أنه حي، خارج هذا الإطار
القاسي، مادام يزاول ما كان يزاوله من عاداته قبل السجن. يضاف إلى ذلك ما في الفن من
متعة الاكتشاف والتجريب، ومن مزايا أخرى في غاية الأهمية: أن تعيد تركيب عالمك، فتصوغه
وفق رؤيتك الخاصة!
لنقرأ قصيدة ريتسوس "فنان منسي":
"رسام في المساء رسم قطارا.
في العربة الأخيرة نفد منه الورق،
وعاد وحيدا إلى المخزن.
في هذه العربة بالضبط كان الفنان يجلس".
قصيدة قصيرة بسيطة جدا، لكنها تخلط الواقع بالخيال، فالفنان الذي يرسم
أصبح جزءا من لوحته، أي أتاحت قوانينه أن يصبح جزءا من عمل فني مفارق للواقع؛ ببساطة
أكثر: أن يهرب من واقعه إلى خياله، حيث رحابة الألوان والظلال. وبذلك لم يعد منسيا،
أي سجينا، لأن السجين كالميت في عالم البشر؛ يُنسى بأسرع مما يظن الناس.
قصيدة أخرى أكاد أجزم أنه لا يكتبها إلا شاعر ذاق مرارة السجن.
"معنى البساطة":
"خلف الأشياء البسيطة أختبئ كي تجدوني.
وإذا لم تجدوني فسوف تجدون الأشياء،
ستلمسونها؛ تلك التي لمستها يدي،
وسوف تمتزج آثار أيدينا".
كيف فجّر السجن هذه الطاقة الجميلة والقدرة على تصور العلاقات وإعادة
إنتاجها؟ كيف أدرك ريتسوس أن الأحبة الذين فرّق السجن بينهم يستطيعون أن يلمسوا الأشياء
ذاتها، ليتواصلوا معا، فقد تلامست أيديهم عبر الأشياء، التي تبدو تافهة للناس العاديين.
على أن ريتسوس ذاته واجه في تجربة السجن وقائع تبدو خيالية أو سينمائية،
لكنه عاشها في حياته اليومية، ففي اعتقاله الأول، كتب مجموعته "زمن الحجر"،
ودفنها تحت التراب كي لا تضيع، لأنه لم يجد وقتها وسيلة آمنة لنقلها خارج السجن، وحين
استطاع إخراجها أنقذها، ونُشرت. وفي اعتقاله الثاني، تعلم نقش الأحجار المتناثرة في
ساحة السجن على يد صديقه الفنان السجين كاتراكي، وخرج بحقيبة كبيرة من الأحجار التي
نقشها.
هذه الجرأة في التعاطي مع الحياة ذاتها كانت ملمحا شعريا باهرا لدى
ريتسوس. فهو شاعر يرى في تحطم حافلة بذرة لعربة برتقال يبتكرها طفل فقير:
"المخططات لم تفد في شيء. تنقلب كل حين،
مثل تلك الحافلة في الريف، الغالبية قتلت،
والآخرون حملوهم إلى أقرب مشفى.
عجلة انحدرت إلى أسفل، ووجدها طفل؛ صنع عربة يدوية
يدور بها الآن في الضاحية، يبيع البرتقال.
البرتقال يتلألأ،
كومة من الشموس غير الهامة.
بهذه البساطة نمر، بهذه البساطة نتكلم، ننسى، نعتاد.
بهذه البساطة نُنسَى".
حقا تبدو القصيدة بسيطة حتى إنها لا تحتاج إلى شرح، لكنها في الوقت
ذاته مبهرة. ثمة حادث رهيب نتج عنه قتلى ومصابين وتحطم حافلة، لكن شعرية ريتسوس ترى
في تلك العجلة، التي انفصلت عن الحافلة لشدة الارتطام، وعدا بحياة أوسع رزقا لطفل مشرد،
استخدمها في صنع عربة يدوية!
وهو أيضا لا يرى ذلك من باب التفاؤل والتفكير الإيجابي، الذي يردده
خبراء التنمية البشرية، بل يفاجئنا بأننا سوف نُنسى بالبساطة ذاتها؛ هكذا تمضي الحياة
وهكذا يدعونا إلى تقبلها والتسامح مع كوارثها والاستمتاع بمباهجها، فنحن كلنا سوف نَنسى
ونُنسى كما نُسي الحادث وضحاياه وحافلته التي تحول حطامها إلى حياة جديدة سوف تمضي
إلى النسيان بدورها.
تلك رؤية شعرية شديدة الخصوصية لشاعر ساهم في تكوينه أفدح المصائب الكفيلة
بتدمير الإنسان العادي، لكن ليس الشاعر ريتسوس، الذي خسرته نوبل ولم يخسرها!
ملحوظة: القصائد المترجمة مقتبسة من المختارات الشعرية: "جيران
العالم" لريتسوس، ترجمة خالد رؤوف – دار جدار للثقافة والنشر.