السؤال عن جدوى مقاطعة البضائع الفرنسية يطرحه كثيرون بغض النظر عن نواياهم، وقد كانت الإجابة من الخارجية الفرنسية ذاتها التي طالبت بإيقافها، وكتبت عن ذلك باللغة العربية وكذلك فعل الرئيس الفرنسي ماكرون.
ولولا أن حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية أقضت مضاجعهم لما تداعوا للمطالبة بإيقافها وببيانات رسمية فرنسية مكتوبة باللغة العربية، ونحن نعرف التعصب للفرنسية في الثقافة الرسمية للدولة.
ولكن هناك من ذهب باتجاه آخر تماما باستنكار عدم حصول مثل هذه الهبة والدعوة للمقاطعة ضد الصين أو بورما رغم تورطهما بدماء المسلمين، أو ضد الدول التي انبطحت للاحتلال وتحاول تطبيع العلاقات معه!
والإجابة عن ذلك من شقين: الأول أن من الخطأ من وجهة نظري، والجمهور قد تحرك وتوحد في قضية جامعة، أن نخذّل الناس بالقول أين كُنتُم في القصة كذا وأين وقفتكم في الموضوع كذا؛ وإنما ندعم حراكهم ما دام سلميا حضاريا ونشجعهم، ومن بعد نبني على نجاح التجربة للمستقبل للوقوف في قضايا أخرى جامعة.
والشق الثاني أن جدوى دعوات
المقاطعة تتناسب طرديا ومستوى الحالة الديمقراطية في البلد الذي ندعو لمقاطعته؛ حيث إنها أثرت وتؤثر في مواطني البلد الذين هم ناخبون معتبرون في النظم الديمقراطية وأصواتهم مهمة، وعليه إن رأوْا سياسة حكومة دولتهم تضر باقتصادهم وعلاقاتهم ضغطوا عليها، وفي أقل تقدير امتنعوا عن التصويت لها في أول انتخابات تجرى بعد ذلك.
وهذه الحالة غير ممكنة في دول قمعية مثل الصين وبورما أو غيرهما، حيث إن هؤلاء لا يأبهون لشارع أو رأي مواطن.
وقبل ذلك كله تأتي مكانة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في نفوس أمته، وعدم قبول مجتمعاتنا المتدينة بفطرتها المساس بالرموز الدينية والإساءة لهم، وهذا الموقف تبناه مسيحيون عرب وغير عرب كذلك. والمسلمون بالمناسبة ومعهم كثير من العقلاء في هذا العالم يرفضون الإساءة لأي رمز معتبر في أي دين.
وفي إصرار ماكرون وحكومته على الإساءة للإسلام مخالفة لقرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان باستثناء الإساءة للرموز الدينية من حرية التعبير.
حرية التعبير ذلك المصطلح الذي تشدق به ماكرون كثيرا، ولكن سرعان ما رفضه حينما وصفه الرئيس التركي أردوغان بالجنون وهو يعادي عُشر مواطني بلده ويشجع إهانة رموزهم، وتحركت الخارجية الفرنسية على الفور لاستدعاء سفيرها في أنقرة وسارعت للتظلم أمام الاتحاد الأوروبي!
وفي الوقت الذي أعادت به نشر الرسوم السخيفة في أماكن رئيسية بالبلاد من باب حرية التعبير، اتصلت الحكومة الفرنسية مع عدد من الحكومات العربية لحثها على إيقاف حملات المقاطعة وتقييد حرية الدعوة لها!
بهذه التصرفات الصبيانية لماكرون وحكومته تسهل مهمة من يتهم هؤلاء بعدم الجدية في دعم الديمقراطية؛ وسعيهم لإيجاد ديمقراطية مفصّلة على مقاس فقط، فهي لهم ولأنصارهم، أما إذا جاءت صناديق الاقتراع بشخص ذي خلفية إسلامية أو بموقف رافض لسياستهم فالرفض والمجابهة!
وقد حاولت حكومة ماكرون اتهام "أقلية متطرفة" بالوقوف خلف دعوات المقاطعة، وشاركها بعض المخذِّلين باتهام تيار "الإسلام السياسي"، على حد قولهم، بالوقوف خلفها. وهم يقصدون بطبيعة الحال جماعة الإخوان المسلمين، التي تمر بأصعب أوضاعها السياسية، وعشرات الآلاف من أعضائها بين سجين وطريد ومشرّد؛ فإن كانت كما يقولون فهذه شهادة تسجل لها على قوتها وحضورها في الشارع رغم كل تلك الحرب المعلنة عليها. ومن جهة أخرى يحتاج أصحاب هذا الطرح التفكير مليا به؛ فالرسول الكريم للأمة كلها وليس لجماعة الإسلام السياسي وحدها، ومن يخذله من المسلمين يكون مخالفا لتعاليم دينه، وليست قضية اجتهاد أو وجهات نظر مختلفة في هذا السياق.
وفي المنطقة العربية جرت دعوات وحملات مقاطعة لمجرد أن أحدهم تطاول على النظام الحاكم في بلدهم؛ فكيف الآن والتطاول قد تكرر على نبيهم نفسه وبرعاية رسمية؟!
وبعيدا عن الآثار الاقتصادية لحملات المقاطعة والتي تأخذ وقتا طويلا ناهيك عن صعوبة اعتراف النظام الرسمي في البلد المُقاطَع بنجاحها، يكفينا بهذا السياق ما تتركه من أثر نفسي إيجابي في شخص المُقَاطِع الذي تراكمت عليه خيبات أمل كثيرة، وقد دخل البعض في حالة إحباط ويأس وشعور بعدم الثقة بالشارع، وما جرى ويجري من تفاعل كبير مع دعوى المقاطعة للبضائع الفرنسية أعاد الثقة بالشارع العربي والإسلامي، وكلما كانت القضية جامعة أكثر والخصم بها واضح في خصومته كان التفاعل أكبر.
ومن نافلة القول الحديث عن استنكار الجريمة الوحشية التي تعرض لها المعلم الفرنسي وتأكيد رفضها وملاحقة من يقف وراءها أو يشجعها، وهذا محله القضاء، ولا يعقل أن يتحول السياسيون لقضاة يوجهون أحكاما مستعجلة ويوزعون تهما مسبقة على الناس.
نعم لملاحقة التطرّف ومحاربته بعقل وحكمة، وليس بتصرفات تصب الزيت على نيرانه، ونعم لوقوف العقلاء معا بمختلف مرجعياتهم الدينية وتوجهاتهم الفكرية لرفض الخلط بين الإساءة للمقدسات وحرية التعبير، وإلا تحولت لفوضى عارمة كل من فيها يسب ويشتم ويسخر بدعوى
الحرية؛ والحرية المسؤولة منهم براء.