أثار رد الدكتور يوسف القرضاوي على التهنئة التي وجهها له رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الدكتور أحمد الريسوني، ردود فعل كبيرة في الساحة الإسلامية، حيث جاءت رسالة الشيخ القرضاوي بمنزلة رسالة وداع، بالنظر إلى تقدمه في السن، لكنه كان متماسكا ومسترسلا في حديثه عن واقع وحال الأمة.
"عربي21"، تفتح ملفا عن فكر الشيخ القرضاوي، وإسهاماته في قراءة وفهم الفكر الديني في المشهد الديني المعاصر..
اليوم يسلط الإعلامي بسام ناصر من أسرة "عربي21"، الضوء على موقع القضية الفلسطينية في خطاب الدكتور يوسف القرضاوي.
أولى القضايا التي شغلت فكره
منذ بواكير شبابه وجد الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي نفسه منخرطا في أعمال ونشاطات تناهض المشروع الصهيوني في فلسطين، والذي كانت بدايته في "وعد بلفور، وزير خارجية بريطانيا، الذي وعد اليهود في العالم بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين".
يستذكر القرضاوي تلك البدايات في مذكراته (ابن القرية والكتّاب.. ملامح سيرة ومسيرة) فيقول: "كانت قضية فلسطين من قديم، أولى القضايا التي تشغل فكري وقلبي، ومنذ دخلت المعهد الديني في طنطا 1940م، وجدت نفسي أسير مع الطلبة في 2 نوفمبر من كل عام، احتجاجا على وعد (بلفور).. هكذا فهّمنا طلبة القسم الثانوي في المعهد، الذين جاءوا إلينا في المعهد الابتدائي، وأخرجونا لنشاركهم في مظاهرتهم المحتجة على تغلغل اليهود في فلسطين".
ويتابع سرده لتلك الذكريات حاكيا ما نما لعلمه فيما بعد من "أن الطلبة الذين كانوا يقودون هذه المسيرات ويلقون الخطب النارية، والقصائد الثورية، كانوا من طلبة الإخوان المسلمين، الذين كانوا أكثر المصريين اهتماما بفلسطين، وإدراكا لخطر المشروع الصهيوني عليها، وكان الأستاذ حسن البنا مرشد الجماعة أكثر الناس وعيا بهذا الخطر المؤيد من الغرب، وإن كان العرب للأسف في غفلة عما يجري من حولهم، وعندما كنت في السنة الثالثة الابتدائية، بدأت أشارك بإلقاء الخطب، وإنشاد القصائد، والمشاركة في قيادة المظاهرات اللاهبة، والهتاف الصاخب بحياة فلسطين وسقوط الصهيونية".
وبعد استعراضه لمحطات تاريخية هامة ومفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، أكدّ القرضاوي موقفه المبدئي الصارم منها بقوله: "هذه نظرتنا إلى قضية فلسطين: إنها قضيتنا، وليست قضية إخواننا ونحن نساعدهم! وهذه هي النظرة الإسلامية الصحيحة، وكم حاول بعض الذين لا يعلمون أن يثنوا أعناقنا عن هذا الموقف، ويقولون: إن أصحاب القضية لا يعتنون بها مثل عنايتكم.. وأنا أقول لهم: إنكم غالطون، نحن أصحاب القضية، ولسنا غرباء عنها، أو دخلاء عليها".
أولى القضايا وأهمها
ووفقا للداعية والباحث الشرعي المصري، الدكتور محمد الصغير فإن "الشيخ القرضاوي ارتبط بقضية فلسطين مبكرا، وزارها في نهاية الخمسينيات، وصلى بأهل غزة شهر رمضان، كما احتلت مساحة من كتبه ومؤلفاته المتنوعة، وأفردها بكتاب حمل عنوانه نظرة الشيخ إلى قضية المسلمين المركزية الأولى (القدس قضية كل مسلم).
ولفت إلى ما جاء في مقدمة رسالة الشيخ تلك، التي أفصح فيها عن غرضه من كتابتها: "إننا في هذه الصحائف نريد أن ننبه الغافلين، أن نوقظ النائمين، أن نُذكر الناسين، أن نشجع الخائفين، أن نُثبّت المترددين، أن نكشف الخائنين، أن نشد على أيدي المجاهدين، الذي رفضوا الاستسلام، وتحرروا من الوهن، وصمموا على أن يعيشوا أعزاء، أو يموتوا شهداء... إن القدس ليست للفلسطينيين وحدهم، وإن كانوا أولى الناس بها، وليست للعرب وحدهم، وإن كانوا أحق الأمة بالدفاع عنها، وإنما هي لكل مسلم أيا كان موقعه في مشرق الأرض أو مغربها، في شمالها وجنوبها، حاكما كان أو محكوما، متعلما أو أمّيّا، غنيا أو فقيرا، رجلا أو امرأة، كل على قدر مُكنته واستطاعته".
وأضاف الصغير لـ"عربي21": "كما شارك الشيخ القرضاوي بقوة في المؤتمرات والفعاليات الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية، وكانت فتاوى الشيخ هي المرجع الأساس في كفاح الشباب الفلسطيني وجهادهم، وهو ما عبروا به عن ذلك أمامي خلال صحبتي له في زيارته إلى غزة حيث قالوا: لقد تربينا على كتبك، وما قرأناه من علمك طبقناه على الأرض، ولا أنسى يومها وقد خرجت غزة برجالها ونسائها وشيوخها وأطفالها للقاء الشيخ الإمام" وفق وصفه.
وفي الإطار ذاته قال الأكاديمي الشرعي الأردني، المتخصص في الفقه الإسلامي، الدكتور عبد المجيد دية: "الشيخ القرضاوي عالم مجتهد، وهو ينطلق في نظرته للقضية الفلسطينية من منطلق إسلامي، فهو يرى أن فلسطين وقف إسلامي اغتصبها اليهود وشردوا أهلها، وكان الشيخ يخرج منذ عام 1940 في مظاهرات احتجاجا على وعد بلفور يقودها طلاب الإخوان المسلمين الذين كانوا أكثر المصريين اهتماما بفلسطين".
وأضاف: "ويرى الشيخ أن السبب الحقيقي للمعركة مع اليهود هو الاحتلال، والصلح مرفوض معهم إذا كان مبنيا على الاعتراف لهم بأن ما اغتصبوه هو حق لهم، ويرى الشيخ أن الدفاع عن فلسطين فريضة شرعية، وألف كتبا في ذلك، منها (القدس قضية كل مسلم) و (درس النكبة الثانية.. لماذا انهزمنا وكيف ننتصر)؟.
وتابع حديثه لـ"عربي21" ذاكرا أن "للشيخ خطبا عديدة في دعم القضية الفلسطينية ونصرتها، وله كذلك قصائد شعرية حماسية معبرة، وله فتاوى تتعلق بالقضية الفلسطينية منها ما يدور حول العمليات الاستشهادية، ومنها ما يخص الأسرى داخل السجون، وفتوى السفر لزيارة المسجد الأقصى، والسلام مع الكيان الصهيوني، والتطبيع معه، وغير ذلك ما يكشف عن مدى اهتمامه الكبير وانخراطه في كل ما يتعلق بالقضية الإسلامية المركزية، قضية فلسطين".
أرض مباركة لا يجوز التنازل عنها
وأوضح دية أن الشيخ القرضاوي يرى أن أرض فلسطين أرض مباركة بنص القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وأنها وقف إسلامي لا يحل لأحد أن يتنازل عنها، كما يرى أن الجهاد فرض عين على أهل فلسطين حتى يعم المسلمين كافة لتحريرها، وإذا كانت أرض الإسلام أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين كان الجهاد في سبيل تحريرها أوجب".
وأردف: "لذلك كله فإن الشيخ يرى أنه لا بد من الدعم المادي والسياسي والمعنوي والإعلامي، ويؤيد ذلك أنه عندما قامت الانتفاضة الفلسطينية الأولى وقف القرضاوي معها بكل قوة، وكذلك عندما أُسست حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وقف داعما لها كذلك، وهو ما يعبر عن رأي الشيخ وموقفه المتمثل بأنه لا يمكن تحرير فلسطين إلا بالجهاد الشامل والطويل بكل مراتبه، والقتال أحد هذه المراتب".
من جهته أكدّ الداعية الأردني الباحث في التاريخ المعاصر، عوني جدوع العبيدي أن موقف الشيخ القرضاوي من القضية الفلسطينية يتوافق تماما مع ذات الخط الذي سار عليه وتبناه كل علماء الإخوان المسلمين، سواء من خرج منهم من الجماعة أو بقي داخل صفوفها، والمتمثل برفض الاعتراف بالكيان الصهيوني على أرض فلسطين، أو التعامل معه بأي حال من الأحوال".
وواصل حديثه لـ"عربي21" بالقول: "ذلك الموقف الرافض للاعتراف أو التعامل مع الكيان الصهيوني هو امتداد لما كان عليه الحاج أمين الحسيني الذي رفض هو الآخر رفضا مطلقا الاعتراف بمشروعية الاحتلال الصهيوني، حينما رفض قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين (عربية ويهودية)، الصادر سنة 1947 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ولفت العبيدي إلى أن "الشيخ القرضاوي يمثل الخط المناهض لوجود إسرائيل كدولة على أرض فلسطين، كما يمثل خط المقاومة ورفض التعامل مع هذه الدولة، واعتبار القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للعرب والمسلمين، وهو ما يتطلب منهم جميعا دعمها ومساندتها ومناصرتها بكل ما يستطيعونه ويقدرون عليه".
وأشاد العبيدي بموقف الشيخ القرضاوي "الذي كان دائما مساندا ومناصرا للقضية الفلسطينية، وداعما للمقاومة وداعيا إلى دعمها ومساندتها بكل الوسائل والسبل الممكنة، مشيرا إلى "أنه بما لعبه من دور فاعل ومؤثر مثل مرجعية فقهية مقبولة ومحترمة في الأوساط الفلسطينية المختلفة، وكان الجميع ينظرون إليه باحترام وتقدير شديدين".
مناصرة المقاومة ورفض التطبيع
بدوره قال الأكاديمي والباحث الفلسطيني، الدكتور رمضان عمر: "الشيخ القرضاوي واحد من علماء الأمة القلائل الذين ارتبطت أسماؤهم بالقضية الفلسطينية ارتباطا وثيقا، ومثلت شخصيته العلمية مرجعية فقهية لحركات المقاومة الإسلامية في فلسطين، حتى إن البعض يعده المرجعية الأساسية الذي تعود إليه حركة حماس في معظم فتاويها المتعلقة بأشكال الحرب والسلم".
وأضاف: "بل يعده البعض ملهم الاستشهاديين الحقيقي في فلسطين بتبنيه فتاوى صريحة ومباشرة لا تبيح العمليات الاستشهادية فقط، بل تعدها من ذروة سنام الإسلام وأعظم القربات إلى الله"، مشيرا إلى ما ذكره في مذكراته "عن ارتباطه بالقضية الفلسطينية منذ نعومة أظفاره.. وأنه عاش فترة من شبابه في فلسطين، وما زال بيته الذي استأجره بالخليل معروفا باسمه".
وتابع لـ"عربي21": "ثم ارتبط بفلسطين ارتباطا مباشرا مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى حيث كان على اتصال مباشر يومي مع قيادات حماس في الداخل، وأصبح واحدا من أهم مستشاري الحركة الذين يؤخذ برأيهم، ويشارك مشاركة فاعلة في صياغة سياسة الحركة، ما جعل الكيانات المعادية للقضية الفلسطينية كلها، الصهاينة والأمريكان والأوروبيين وأنظمة عربية، تدفع بكل طاقاتها الإعلامية والمادية لمحاربته وتشويه صورته".
وأردف: "بل لقد وظفت أقلام وألسنة، تنتمي لتيار سلفي ترعاه بعض الأنظمة العربية، وتحديدا المملكة العربية السعودية للنيل من مكانته، والتقليل من تأثيره على الشعوب العربية خصوصا بعد ثورات الربيع العربي.. وهو ما عرضه للمنع من دخول معظم الدول العربية والأوروبية غير أنه بقي ثابتا على رأيه، داعما للقضية الفلسطينية وممثلا لها، وواحدا من رموزها ومرجعياتها الفكرية التي تحدد هويتها الفقهية المقاومة".
وعن موقف القرضاوي من التطبيع وثباته على فتاويه الداعية لمقاومة المحتل الصهيوني، والرافضة لكل أشكال التطبيع معه أكدّ الدكتور محمد الصغير على أن "كل فتاوى الشيخ المتعلقة بمقاومة المحتل ووجوب تحرير الأقصى والأسرى في منتهى الوضوح، ولا تحتمل أي لبس، واستمرت نبرتها ووتيرتها متصاعدة خلال الخمسين سنة الماضية، مؤكدة على منع كل أشكال التطبيع مع المحتل، وفتواه في نجاسة يد كل من صافح بيريز بلغت شهرتها الآفاق".
وتعود خلفية تلك الفتوى إلى ما رواه الشيخ القرضاوي نفسه من "أنه خطب عقب زيارة شمعون بيريز للدوحة بعد ارتكاب إسرائيل لمجزرة (قانا) وقال: "على الذين صافحوا بيريز أن يغسلوا أيديهم سبع مرات إحداهن بالتراب"، وأنه قابل أمير قطر فيما بعد فعانقه بحرارة وأقسم له أنه غسل يديه 14 مرة؛ لأنه صافح بيريز مرتين".
وفي ذات الإطار خلص الدكتور عبد المجيد دية إلى التأكيد على موقف الشيخ القرضاوي "الرافض للتطبيع مع الكيان الصهيوني بكل صوره وكافة أشكاله، داعيا إلى وجوب مقاطعته سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، بوصف المقاطعة سلاحا فاعلا ومؤثرا بأيدي العرب والمسلمين، مؤكدا في كل فتاويه على حرمة التطبيع مع دولة الاحتلال، لأنها دولة محاربة، لا يجدي معها أي حوار، بل لا بد من مقاومتها والتصدي لمشروعها الاستيطاني لتحرير فلسطين من دنسها وشرورها".
القرضاوي والمشروع الإسلامي المعاصر.. المرتكزات والسياق
في الفقه المالكي والواقع.. الحالة التونسية أنموذجا (2 من 2)
في الفقه المالكي والواقع، الحالة التونسية أنموذجا (1 من 2)