"أراك تقتربُ
منبهرًا بضوء عينيها يشدُّك إليها، تراها وهي تمتلك ذلك الجَمال الأسطوري القديم كأنها
خرجت للتوّ من إحدى حواديت جدّتك، يمتلكك جمالُها ويقبض على فؤادك يعصِرُك عَصرا".
هكذا يخاطِب
المؤلّف بطلَه الذي تتضِح قَسَماتُ حياتِه تدريجيًّا خلال القصة التي تحمل عنوان
المجموعة (مِصيَدة الفَراشات)، فنعرفُ أوّلاً أنه كان يُحِبُّ فتاةً تُدعى (ليلى)
منذ طفولته، ثم نعرفُ أنه مرتبطٌ ارتباطًا عاطفيًّا بالنيل، وأنّ له أبًا شيخًا
ذاكرًا لله، وأنّ هذا الأبَ كان يُحِبّ (عبد الناصر)، لكنّ هذا الحُبَّ لم يشفع له
فاعتُقِلَ في سُجون ناصر، ولم يَخرُج إلا مريضًا بالشلل الرعّاش ليموت، ونعرف
أخيرًا أنّ (ليلى) ماتت غرَقًا في النيل، وأنّ اسمَ البطلِ (جَمال)، هكذا سمّاه
أبوه باسم الزعيم العُروبيّ الذي أحبَّه. تنتهي القصة بنداءٍ: "واليوم أراكَ
تقِف على بعد خطوتين منها، تتأمل جمالَها وضوء عينيها، ترى فيها ملامح ليلى فتوقن
أنك تعشقُها، بكل ذرة في طفولتك تعشقُها. لا، ابتعد يا جَمال، ابتعد أكثر، اهرب يا
جَمال، اهرب أكثر. حاول أن تُبصِر. استيقظ." لكنّ هذا التجلّي الأنثويّ الذي
يحذّر صوتُ المؤلّفِ البطلَ منه غيرُ مُحَدَّدٍ تماما. إنه أشبه بفكرةٍ سابحةٍ في
أفق البطل (جَمال)، أو هو طَيف حبيبتِه الغارقة. هذا إذا قَصَرنا قراءَتنا على
ملامح هذه القصة فقط!
* الأنثى وهالةُ الغُموض:
إذا خَرَجنا
من القصة المذكورة إلى ما قبلَها وما بعدها من قصص المجموعة، فسنكتشف أنّ (مصطفى
الشيمي) يُحيطُ الأنثى بهالةٍ رهيبةٍ من الغموض في قَصَص المجموعة بالكامل. فالبدايةُ
من الحكاية الافتتاحية المُغفَلَة من العنوان، تلك التي ترسُم مساراتٍ أربعةً
لبطلٍ أسطوريٍّ يَدخُل خيمة عرّافةٍ ليستطلع منها المستقبل، ويموت في أرض المعركة
بعد ذلك، لكن مع وجود اختلافاتٍ تَحدُث على أرض الواقع، واختلافاتٍ أهمّ في
عالَمِه النفسيّ. المهم أنه ابتداءً بهذه الحكاية يُطالِعُنا وجهُ المرأة العَجوز
الغامضة الرهيبة، وهي هنا عرّافةٌ سمراء "تُخفي التجاعيدُ حقيقتَها، ولها عينان
بيضاوان لا ترى منهما شيئا. قال في سِرِّه (لعلّها لهذا ترى ما لا نراه)".
هكذا تختفي حقيقةُ هذه الأنثى المتسربِلَة بالزّمن وراء تجاعيد وجهها وبياض
عينيها. وهذه العرّافَة تظهر ظهوراتٍ متكررةً، وقد تتخفّى حتى في صورةٍ غير
إنسيّة، ففي القصة المعنوَنة الأولى (فأرٌ يُدعى ثعلَب)، نراها فأرةً يتحدثُ عنها
البطلُ الفأر: "جدّتي الفأر العجوز ذات الفرو الأبيض - ها أنا أتذكرها وأتحرر
من قيود عشيرتي – ترتعش من شِدّة خوفها وتقول "إن العالَم أرضٌ مبذورةٌ
للشّرّ". ولأنها أكثرُنا خوفًا صارَت أحكَمَ الفئران." وتعود المرأة العَجوز
في قصة (أمّنا الغُولة)، لكنّها هنا لا تقوم بدور تنبُّؤيٍّ إلا في حدودٍ
عائليّةٍ، حيث تُلقّن الفتى العائد بعد خمسة عشر عامًا – ذلك الذي لا نعرف حتى
نهاية القصة إن كان عائدًا بالفعل أو غريبًا أو مجرَّدَ إنسانٍ يَحلُم – إجاباتٍ
عن أسئلةٍ سيسألُه إيّاها إخوتُه وأقاربُه، بافتراضِ أنّها أُمُّه، وإن كانت تحافظ
على مسافةٍ باردةٍ بينها وبين ذلك العائد/ الغريب، فلا تناديه إلاّ بالغَريب، كما
تَطردُه بنفسِها من البيت قُربَ النهاية!
في (حزن النخيل) نجد عمّةَ الرّاوي
التي تتولى تربيتَه بعد رحيل أبيه وعمِّه تفتؤ تحكي له عن المقابر التي تسكنُها
أرواحٌ شِرِّيرةٌ رفضَت إطاعة الملائكة والرحيل معها إلى العالَم الآخَر، وعن
أبنائها الصغار الذين ماتوا بأمراضٍ عديدةٍ قبل مجيئه، فضلاً عن ضربِها إيّاه
لذَهابِه وحدَه إلى المقابر، وتبريرِها هذا الضربَ بقولِها "كنتُ أضرِبُ الشياطينَ
العالِقةَ في جسدِك"! أما في (مغامرَة عابرة)، فأحداث القصّة يرويها فقيرٌ
أعمى لكاتبِ قصّةٍ بينما يُرافِقُه إلى بيت (الخالة عِيدَة) التي يَسألُ عنها
الأخير، ونعرفُ أنها امرأةٌ عجوزٌ "الحَيّ بالنسبة لها مملكة، وهي تملك
الحيلة والجُندَ للحُكم"، ولها سِماتُ العرّافات، فقد قالَت للشاعر الأعمى
الذي استأذنَها في السفَر "ليس مقدَّرًا لك السفر" بعدما أشعلَت
بخورَها، وكتبَت له قدَرًا جديدا! فوق ذلك، يصفُها الأعمى هكذا: "امرأة عجوزٌ
بضِعف عمري ورغم ذلك لا تزال حية، أسنانها كلُّها محطَّمة عدا سِنَّيها الأماميّتين، تبدو
كأرنبة عجوز شعرها أبيض أشعث، بتجاعيد كثيرة، ... والجميع يَحكون عن العفاريت التي
تجلس فوق سطح الخالة". هذا عن العجائز!
لكنّ هالةَ
الغموض تلُفُّ كذلك الطِّفلات الصغيرات، وهنّ ممسوساتٌ بقدرٍ مِن الرَّهبة في
كثيرٍ من ظهوراتِهنّ في المجموعة. ففي (خيانة عابرة) نجِد (موني) التي يذكرُها
الرّاوي بوصفِها طفلةً مدهشةً أنجبَها في حلمٍ بالكادِ يذكُرُه، ويقول إنه
يتذكرُها كأنها طفلةٌ حقيقية، ويناديها "أيتُها الفكرة الهاربة من
جلدي"، ويريد أن يعرف أين قبرُها ليحمل الزهور إليها، ويختم القصة بذِكر
دجّالٍ يسلِّمُه رأس طفلةٍ هجموا عليها وتلذذوا بالتهامِها ومصمصة عظامها ولعق
أصابعهم. وفي (بقعة دم) نرى (ملَك) الطفلة الحزينة دائمًا ذات الدُّمية مكسورة
الساق، وهي تقول للرّاوي بلُغةِ الكِبار في مشهدٍ مُنذِرٍ للغاية "قلبي
منكسِرٌ مثل هذه الدُّمية، وأنت لا تُحِسّ".
وأخيرًا، لا تَسلَم الشّابّات اليافعاتُ من
هالة الغموض والرهبة، فهناك (ريم) راقصة المسرح في (ملاك أسود)، حيث يبدو أنها
ترقصُ في مسرحيةٍ عن العالَم الآخَر كتبَها والدُها المتوفَّى حديثًا، لكنّ الواقع
والفانتازيا يختلطان إلى درجةٍ لا يمكن معها تبيُّنُ الحدود الفاصلة بينهما،
فبينما تُواعِدُ (ريم) زملاءها في الفرقة، لم تشعر بمَيلٍ إلا إلى لوسيفر/
الشيطان/ الملاك الأسود، وتسألُه أسئلةً مِن قَبيل "لِمَ لم تُصبح أنت وآدم
صديقَين؟!"، وفي نهاية القصة تفتحُ (ريم) باب السماء ليَدخُلَ منه لوسيفر وثُوّارُه
ويقلبوا المسرح رأسًا على عقِب! وهناك الحبيبةُ غير المسمّاة في (لعنة كيوبيد)،
تلك التي يعشقُها الراوي عشقًا غير مشروط، ويتقدم لها فيرفضُه أهلُها، فيقرران أن
يتطارحا الغرامَ رغمَ المجتمع، وبينما هي تستعدُّ للقائه في الفِراش، يقرر هو أن
يستحمّ، ويموتُ الراوي أثناءَ استحمامِه، ويستطيع بعد موته أن يرى خلال الجُدران
المعتمة، فيرى حبيبتَه ذات الكبرياء الباردة تتأفف من غيبته الطويلة في الحمّام،
إلى أن تقرر أن تذهبَ دون أن تكلِّف نفسَها مئونة الاطمئنان عليه! ولدينا (ليلى)
التي أسلَفنا الحديثَ عنها في (مصيدة الفراشات)، وهناك الفتاة المجنونة الجميلة
التي أحبَّها الشاعر الأعمى في (مغامرة عابرة)، تلك التي كانت تتعرى في الشُّرفة
أمام الناظِرين وترقص تحت ضوء القمر، حتى ضاق بها أهلُها ذرعًا فأودعوها مستشفى
المجاذيب. ولعلّ ذروةَ هذا الغموض تأتي في قصة (ذات المعطف الأسود)، حيث الجميلة
دامعة العينين التي تترك وراءها وريقاتٍ من الورد الأحمر حيثُما حلَّت، ويكثر
الشبابُ حولَها لكنهم لا يجرءون على معاكستِها، ففيها "شيءٌ يُجبرُك على
الصمت، غموضٌ يزيد من سحرِها، حزنٌ يقودُكَ نحو الموت بسعادة"، وهي تظهر مثل
الطيفِ الغريبِ لصبيٍّ وطفلةٍ يتقاذفان الكُرةَ، فتدعو الطفلةَ إليها وتهمس لها
بشيءٍ تضحكُ له الطفلة، وحين تعود الطفلةُ للصبيِّ يتوقعُ هذا الأخيرُ أن تقبِّلَه
الطفلة، لكنها تصفعُه في مفاجأةٍ غريبةٍ، وحين ينظر إلى موضع ذات المعطف الأسود
يجدُها قد اختفَت!
هكذا تبدو
الأنثى في مِصيَدة (مصطفى الشيمي) محرّكةً للأحداثِ، مهيمنةً على سَير العالَم،
سواءٌ العالَمُ الواقعيُّ كما يَحدثُ في (لعنة كيوبيد – أمنا الغولة – ذات
المِعطَف الأسود) أو النفسيّ الخاصُّ جِدًّا بالراوي كما في (خيانة عابرة) حيث
طفلةُ الفِكر الخيالية (موني)، أو عالَم المسرح حيث لا تَبينُ تُخومُ الواقع مِن
تخوم الخيال كما في (ملاك أسود). ولعلّ العبارة التي أوردناها آنفًا مِن قصة
(مصيدة الفراشات): "تقترب منبهرًا بضوء عينيها يشدُّكَ إليها" تنتهِك
بشكلٍ ما مُواضَعاتٍ مستقرّةً في التلقّي الجَمعيّ لمفردة (الفَراشات)، حيث ترتبط
الفَراشَة بالأنثى، ونعرف من لوازمِها أنها تنجذبُ إلى الضوء، لكنّ الكاتب هنا
يجعَلُ مُخاطَبَه المذكَّرَ في موضع الفَراشَة، فهو المجذوبُ إلى ضوء عينَي الأنثى
غير المحددة. فهل هذا يجعلُ الأنثى هي المِصيَدَة التي ينصبُها الكاتبُ لقرّائه
بالفعل؟! في تقديري أنّ الإجابةَ (نَعَم). حتى في (فأرٌ يُدعى ثعلَب) – وهي القصة
الأولى في ترتيب المجموعة - نجد سيّدةً عجوزًا هي التي تنصب المصيدة للفأر، في
إرهاصٍ بأنّ الغالِبَ على قَصَص المجموعة هو أن تقودَ الأنثى سَيرَ الأحداثِ إلى
أن يَهلِكَ البطلُ أو الرّاوي، أو يجد نفسَه في حيرةٍ وبلبلةٍ عند النهاية، يفكّر
في مواقعَة الفتاة الجميلةِ لكنه يردّد وراء الشيخ "لعنةُ الله عليها"
كما يَحدثُ في قصة "حذاؤها الأحمر"!
* لوحات الشيمي الانطباعية:
يغلِبُ على قَصَص المجموعة أن يختلط
الواقع بالحُلم، فما حالةُ المسرح المتطرّفة في امتزاجِ العالمَين في (ملاك أسود)
إلا النموذج الأكثر صُراخًا لهذا الاختلاط، لكنه موجودٌ من بداية المجموعة إلى
نهايتِها بدرجاتٍ متفاوتة، وهو ما يُذيبُ الحَدَثَ بدرجةٍ معتبَرَةٍ في هذه
القِصَص. أعني أنّ قُرّاءَ الأدب ونُقّادَه قد اصطلحوا على أنّ جنس القصّة يتمحورُ
أساسًا حول الحدَث، فهو بَطَلُ النّصّ، إلاّ أنّ الأحداثَ في (مِصيَدَة الفَراشات)
غائمةٌ، كأننا ننظرُ إليها مِن وراء سِتارٍ نصف مُعتمٍ، أو كأنّ المؤلّف قد رسمَها
بشكلٍ انطباعيٍّ على طريقةِ (ڤان جوخ) مثَلا!
وآلةُ
المؤلّف لإحداث هذا الأثَر الانطباعي في رأيي هي اللغة الشاعريّة المفرِطة في
شاعريتِها إذا جازَ التعبير، ولعلّ هذا يتّضِح في فقرةٍ من (ملاك أسود) مثل
"الأرض جحيمٌ مُعَدٌّ بإتقان، حُفَرٌ مملوءةٌ بالحمم وماء النار، كثبان من
الظلام تهيم وتهيمن على الهواء، أفكار مدنّسة ووساوس تملأ قلب ريم"، أو في
فقرةٍ تصِلُ إلى المبالغة في العاطفيّة Sentimentality ولو بشكلٍ
لحظيٍّ في (لعنة كيوبيد): "لماذا أعشقُها كل هذا العشق ولم أذُق سُكّرًا من
شفتيها ولا شهدًا في كلامِها؟ وما إن ألمس صدري حتى أتحسس الإجابة فورًا، هذا
الجرح الممتد، كيوبيد اللعين أصابني في مَقتل ولم يُشفق عليَّ، وهي إلى اليوم
تُلقيني كل يومٍ بألف سهمٍ من رموشها، رموشها التي تحرس عينيها مثل حصن".
كذلك يتضافَر مع اللغة الشاعرية اختيار المؤلّف أن يُنطِقَ الجميع بالفصحى
المعيارية، فالطفلة تتكلم كالعجوز الشمطاء كالفقير الأعمى الذي نظنُّه عينَ الشاعرِ
الأعمى في (مغامرة عابرة)! هذا الحِوار مُفرِطُ الفصاحةِ على ألسنة الجميع أحيانًا
يجعلُ النصَّ يحلّق فوق طِين الواقع ولا يأخذُ منه إلاّ بقَدر ما يَحتاجُ (الشيمي)
أن يخلُقَ نواةً للوحتِه/ نَصِّه الانطباعيِّ، مَنظرًا ما، يُرخي عليه سِتارَه
نصفَ المُعتِم ليُلقِيَ بنا في أَتون اللا-يَقين الذي يمثّل محصِّلَةً محتملةً
لنصوص المجموعة. ومِن اللافِت في قصّةٍ مثل (مغامرة عابرة) أننا قد نجِد اللغة
تتخفف من شاعريتِها المفرطة أحيانًا، فيُعاجِلُنا (الشيمي) بآلةٍ أخرى تجعلُ نصَّه
يُحيلُنا إلى حالة القصيدة، وأعني هنا تلك التوقُّفات المتكررة في حِوار الفقير
الأعمى، تلك التي تبدو كالمذهب أو المُرجَّع في القصيدة الغنائية مثَلاً، وتضبط
إيقاعَ القصّة كأنها قصيدةٌ ولا شيء إلا قصيدة. تتمثل هذا التوقفات في عبارات:
"تسألُني: هل يَخافُ العِميان؟ أخزاكَ اللهُ! وهل يخافُ سِواهم؟"/
"تسألُني: هل يُحِبُّ المجانين؟ يا لغبائك .. وهل يحبُّ سِواهم؟!"/
"تسألُني: هل يَرى العِميان؟ عَجبتُ مِنكَ، ألا يُعمِي الحُبُّ المبصِرين
دَوما؟"
وفي رأيي
أنّ هذا الأثر الانطباعيّ وهذا الستار نصف المعتِم وتلك المحصّلة من اللا-يقين،
يتجاوبُ كلُّها مع هيمنة الأنثى (الطفلة/ الفتاة/ العَجوز) على أجواء القصص،
ويتساوق مع هالة الغموض التي يلفُّها بها المؤلِّف. هو يصطادُنا جميعًا بإيقافِنا
منتبهِين أمام لوحاتِه تلك، نحاولُ استجلاءَ حقيقة الحدَث المكنون في كل لوحة،
لكنّ عَماءً جبّارًا يهيمِن علينا ونحن على هذه الحالة، فنضيع بين الحقيقة والوهم،
ولعلّ عبارة الفقير الأعمى في (مغامرة عابرة) للمغامر كاتب القصّة تعبّر خير
التعبير عن هذه الحالة: "هو اختيارُك على أية حال، فلتُمسِك بيَدَيّ جيّدًا،
وتذكَّر أن دليلَكَ في الحيّ رجُلٌ أعمى"، ثم إنه يعود ليؤنِّبَه: "عليك
أن تفكر فيما يُحكَى عليكَ، لا تنتظر شيئًا، فالإجابات لا تأتي وحدها، ارجع البصرَ
وأخبرني هل تَرى مِن فُطور؟"
هذا التناصّ
القرآنيُّ الأخير مع سُورةِ المُلك يجعلُ هذا الرجُل الأعمى هو مَن يَشيدُ سماء
الحكاية أمامَ القاصّ، وهو يتحدّاه أن يجدَ ثغرةً فيما يراه، رغم أنه يطلبُ منه
ألا ينتظر إجاباتٍ جاهزة. هكذا يرتسمُ اللا-يقين كمحصِلةٍ نهائيّةٍ كأوضحِ ما
يرتسمُ في تلك العبارة الأخيرة.
* ثلاثةُ استثناءاتٍ لافتة:
بين قصص
المجموعة تبرزُ ثلاث قصصٍ يرتسمُ فيها الحدَثُ واضحًا وضوحًا واقعيًّا، كأنّ
(الشيمي) يقرر أن يزيح الستار في هذه اللوحات الثلاث بالتحديد! آخِرُ هذه القصص
بالترتيب هي (بنت وولَد) عن الزوجين المسنَّين اللذَين لم يُرزَقا أبناءً، حيث
تبكي الزوجةُ في المطبخ لأنّ ساق الكرسيّ قد انكسَرَت، فيصلِحها لها الزوج، وتستمر
بينهما المداعبات كأنهما عروسان في شهر عسلِهما، وبعد أن يأويا إلى فِراشِهما
يتسلل الزوجُ ليفُكّ المسامير التي ثَبَّتَ بها الساقَ، وتتسلل هي وراءه لتكتشف
سِرّه الصغير، ثم ينامان ليعيشا ليومٍ جديدٍ تتكرر فيه الحكاية. هنا تبدو لنا
التفاصيلُ شديدة الوضوح، بين محبتِها للقراءة ومحبتِه للتلفاز، وغرامه بمشاهدة
الأطفال يلعبون الكُرةَ في الشارع بعكس جارِه الذي ينهرُهم، إلى آخر تلك التفاصيل.
وربّما لهذا الوضوح لم تكن الأنثى هي المهيمنةَ على جوّ القصّة، وإنما المحرّك
الأكثر إيجابيةً للحدَث هو الرجُل، وربما أيضًا لهذا السبَب أطلق عنوان القصةِ
مشاركةً بين أنثى وذكَر!
القصة السابقة على هذه بين القصص
الثلاث هي (خيانة عابرة)، حيث ينجذبُ القاصّ للهالة النورانية التي يراها تحيط وجه
العاهرة التي تصطادُ الرجال بتقليد صوت ونظرة القطّة! هنا نتوهّم للحظاتٍ أننا
أمام تلك الأنثى الغامضة التي عوَدَنا المؤلَف على حضورِها، حيث يصفُها: "في وجهها
مسحة حزن وعفرة الفقر، لكنها عنيدة تعرف طريق التغنج، تلهو بي ولا تأتي إليّ،
تقترب مرةً وتبتعد عشرة، ألمح طيفَها في الحسين وشارع المُعِزّ والغوريّة، تختبئ
في أجساد الناس كأنها عُودٌ هارِب من العصر الفاطمي". لكنه بعد أن طارحها
الغرام يقول: "نظرَت إليَّ كأنني من سليل الآلهة والأساطير وقالت "فقط
اكتب عني قصة". ألقيتُ عليها نظرةً ولم أرَ فيها شيئًا مميزًا، اختفت هالتُها
النورانية المزيفة التي رأيتُها، مجرد عاهرة فقيرة". هكذا يرفض القاصّ المصاب
بحبسة الكاتب Writer's Block أن يكتب عن عاهرتِه، فتَقبَل في النهاية بأخذ
النقود وتضعها في صدرها وينفجر نحيبُها بعد أن تغلق باب الشقة وراءها. هنا يبدو
الحدَثُ واضحًا تمامًا، كأنها لوحةٌ من الواقعية المفرِطة، لا كما عوّدَنا
(الشيمي)! لقد انتهكَ غموضَ الأنثى وقداستَها هنا، ولم يفعل ذلك إلا وهو في حبسة
الكاتب، فجاءت النتيجة واقعيةً صارخةً، كأنه ينقلبُ بها ويتمرّد على هيمنة الأنثى
التي لا سبيل إليها على عالَمِه، أو كأنه يخونُ اتفاقَه الضمنيَّ معها على الرضوخ
لها، وربما لذلك سمّى هذه القصة (خيانةً عابرة)!
أما القصة الأولى بين هذه الثلاث فهي
(غرفة الفئران)، حيث النموذج الأوفَى للميتا-سَرد في المجموعة. أعني ذلك الحضور
للقاصّ بصِفَته قاصًّا بين أبطال قصصه ورُواتِها. هنا يقول القاصُّ إنه في حديقةٍ
ما يراقب شابًّا يقرأ روايةً لتشارلز دِكِنز – وينعتُ دِكِنز بـ(البائس) – وفتاةً
في صحبة طفلةٍ صغيرةٍ تنتظران أن يقوم الشابّ بينما تتناولان الآيس كريم، لتَلعبا
على الأرجوحة التي يجلس عليها. المهم أنه يخطط لتعارُف الفتاة والشابّ وابتداء قصة
حُبٍّ بينهما في قصّتِه هذه، لكنّ ما يَحدثُ بدلاً من ذلك أن تنجذبَ الفتاةُ إليه
هو – القاصَّ/ خالقَها – فيجد نفسه في ورطةٍ ويصف موقفَه بنهاية القصة: "لم
أنطِقْ "كُنْ". فقدتُ جوهري. صِرتُ عاديًّا، محض دُمية. هأنا أسير معها
وأمسك بيدها. هي سعيدة وأنا تعيس. أريد استعادةَ زمام الفعل، الخَلق، الزمان،
الروح، قبل أن تقتلني حروف النهاية الثلاثة، تلك الكلمة اللعينة
"تَمَّت" أي .. مَوت". هكذا تقع أحداث هذه القصّة أمام أعيننا في
وضح النهار، لكنّ معضلتَها أنّها ربما كانت في وضحٍ نهارٍ داخل عقلِ الكاتب. إلامَ
يشيرُ عنوانُها (غرفة الفئران)؟! غرفة الفئران هي المكان المُظلم الذي يُخيفُ به
الآباء وذوو السلطة رعاياهم، والفئران كائناتٌ مخيفةٌ رغم كونِها محبوسةً فيه لا
حول لها ولا قوّة! ربما كانت الفئران أشخاصَ القصّة الافتراضيين هؤلاء، لا يملكون
فِرارًا من عقل مبدعِهم فيما يبدو، إلا أنّ الأنثى تمرّدَت هنا ففرضَت نهايةً ما
على السَّرد، وحرَمَت مبدعَها من لذّة الخَلق! هذه الفتاة التي لا اسمَ لها خَطَت
خطوةً أبعدَ ممّا قُدِّرَ لعاهرةِ (خيانةٍ عابرة)، فلم تمتثل لما أرادَه القاصّ.
في (خيانة عابرة)، يواجهنا القاصّ العاجز المصاب بحبسة الكاتب، فيُجهِضُ القصّة
بيدَيه، حين تنطفئ هالةُ العاهرة، أمّا في (غرفة الفئران) فالقاصّ راغبٌ في المزيد
من الخَلق، لكنّ الفتاةَ هي التي تفرضُ النهايةَ وتَخرُجُ به من غرفة فئرانِه إلى
عالَمٍ آخَرَ ربما كان الواقِع. إنّ اللقطة الختاميّة لهذه القصة تذكّرُنا بنهاية
فيلم (عَرض ترومان Truman Show) للمخرج (پيتر وِير) من بطولة (چِم كاري).
يَخرج ترومان (رجُلُ الصِّدق) من العالَم الزائف الذي خلقَه له مُخرجُ البرنامج ليلمس
عالَمَ الحقيقة. ولعلَّ القصة والفِلم معًا يذكّراننا بأحد الأبيات الشهيرة لأبي
العلاء المعرّي، يصوغ فيها سؤالَه المشهور عن غرفة الفئران الأعظم/ الكَون، حيث
يقول: "وهل يأبَقُ الإنسانُ مِن مُلكِ رَبِّه .. فيَخرُجَ مِن أرضٍ له
وسَماء؟!"
* ختام - مخلوقاتٌ مغرورةٌ بعقولها!:
للشاعرة
الأمريكية إمِلي دِكِنسن Emily
Dickinson أبياتٌ
تقولُ فيها: "العَقلُ أوسَعُ مِن سمائِكْ/ فإذا شكَكتَ فضَعهما مُتجاوِرَينْ/
تَجِد السَّماءَ بكُلِّ ما فيها احتواها العَقلُ في يُسرٍ، وأنتَ كذاكَ في خُيَلائِكْ".
(الترجمة لكاتب المقال)
The brain is wider than the sky/ For put them side by
side./
The one the
other will include/ With ease, and you beside!
وصحيحٌ أنّ للعقل إمكاناتٍ عظيمةً كما
تدّعي (دِكِنسن)، إلاّ أنّ مخلوقَين في هذه المجموعة يظنّان ظَنَّها، ونعلم مدى تفاهة
أحدهما، ويضعُنا الكاتب في سخريةٍ مريرةٍ أمام مصير الآخَر!
فأمّا الأول فالذبابة في قصة (صندوق
قذر)، حيث تقف على أنف عامل النظافة الفقير وتفتش في فتحتيه، ويتركها الرجل تفعل
ما شاء لها ويفكّر: "لابُدَّ أنها تتفكر أيضًا، تستكشف ذلك العالَم، ذلك الغارَ،
فلماذا يمنعها من الوصول إلى حكمة الله البعيدة؟" ثم يعقّب السرد:
"لكنها لا تصل إلى شيء، تطير فجأة وترحل، يحس بوحشةٍ بعد غيابها وينتظر
عودتَها". هكذا يجعلُها المؤلف معادلاً موضوعيًّا لأبطال قصصه الباحثين عن
الحقيقة المحكومين بالفشَل في ذلك المسعى!
وأما المخلوق الثاني فهو ذلك الفأر
الذي أسماه والدُه (ثعلب) في أولى قصص المجموعة ليخدع قَدَرَ الفئران. يقول عن
نفسه في لحظةٍ مشابهةٍ لغرور الراحلة العظيمة (إمِلي دِكِنسن): "وفجأةً لاحَت
في عقلي فكرة، وبدأت أفهم سِرَّ كُلِّ شيء، وجدتُ رأسي الصغير جدًّا يتّسع ليحتوي
هذا الكون. أحسستُ بأنني أقرأ أفكارَها وأفهم لغتَها. وجدتُ طريقةً للتواصُل مع
بني الإنسان والقطط وباقي أعدائنا. ربما لن يصدقني أحدٌ أبدًا، لكنني شعرتُ
بالنبوّة."
هو يتحدث عن العجوز صاحبة القطّ التي
وضعت له قطعة جُبنٍ في علبةٍ حديديةٍ وهو لا يدري من أمرها شيئًا، حيث العبارة
التي تنتهي بها القصة هي قولُه لنفسه: "كان عليَّ أن أعودَ، أن أُنير الطريق
للآخَرين، لكن ليس قبل أن آخُذ هذه القطعة الشهية من الجُبن أوّلاً."
فكرة القصة الدائرة بلسان حيوانٍ
تذكّرنا بقصّة كافكا الشهيرة (تحرّيات كلب) التي تصف محاولاتٍ معرفيةً لكلبٍ وسط
الشكّ المسيطر على جنس الكلاب بخصوص مصدر غذائهم وعلاقته بالآدميين! أما الفأر هنا
فهو مؤنسَنٌ أكثر من كلب كافكا، لكنّه بعد أن تصور نفسَه نبيًّا، يتدخل (الشيمي)
ليُوقِفَنا على ما يكتنف موقفَيه المعرفيَّ والوجوديَّ من سخريةٍ مريرةٍ، فهو على
وشك الوقوع في المصيدة!
هكذا، إن كان للأدب وظيفةٌ إلى جوار وظيفته الجَمالية – وكاتب هذا المقال لا يشُكُّ في وجودها – فهي أن يجعلَنا أكثر تسامُحًا مع قصورِنا ونقائصِنا الإنسانيّة، وأن يجعلَنا أكثر تواضُعًا أمام تعقيد العالَم، فالأمور أبعدُ ما تكونُ عن اليقينيّة، والستار نصف المُعتِم يكتنفُ كلَّ ما عسانا ننظرُ إليه، ومَن يعتقِد أنّه قد وصلَ إلى معرفةٍ نهائيّةٍ فهو أقربُ ما يكون إلى ذلك الفأر المدعوِّ (ثعلَب)، المُوشِكِ على الوقوع في المصيَدة!
قراءة في المجموعة القصصية الموسومة بـ"مملكة النمل"