الضمّ استكمال للمشروع الاستعماري الذي بدأ بسرقة فلسطين عام 1948، وهو حلقة من حلقات عدة تستهدف الوجود الفلسطيني على هذه الأرض، الوجود الذي سبق كل الخرافات والأساطير التي بنت الصهيونية عليها روايتها الكاذبة التي لم تهدف لشيء إلا تعزيز سرقة الأرض. وبالنظر إلى الموروث الاستعماري في فلسطين يتم الاستدلال على شيئين: أولا أن الاحتلال البريطاني لفلسطيني المسمى زورا بالانتداب كان الحلقة الأولى في سرقة البلاد وأسست تشريعاته من وعد بلفور إلى كل التسهيلات التي تم منحها للسارقين الجدد لتمكين الغرباء حتى يسرقوا فلسطين، وثانيا أن التجربة الصهيونية ليست إلا تواصلا واضحا للمشروع الكولونيالي الغربي بمقوماته المادية ومرجعياته الفكرية.
ومن المفارقات مثلا كيف بدأ المشروع
الكولونيالي في فلسطين، فقد أخذ الطابع العام لكل المشاريع الكولونيالية في
التاريخ الحديث واتسم بكل ما اتسمت به. الاستعمار براءة اختراع التاريخ الأوروبي
الحديث وترافق مع توجه قوى أوروبا الغربية لسرقة خيرات البلدان الأخرى من أجل
توفير المواد الخام لماكنة التصنيع التي بدأت تتسارع وتيرتها في القارة. وهو إلى
ذلك تغذى على تلك الصراعات بين تلك الدول للسيطرة على الطرق، وبالتالي الوصول إلى
مواطن الخيرات والثروات وسرقتها.
وترابط هذه بسلسلة علاقات وتشابكات غريبة قادت إلى منافسة شرسة دفع ثمنها في معظم الأحيان أصحاب المستعمرات، حيث حرموا من تقرير مصيرهم وظلوا عقودا طويلة زادت على قرن بالنسبة للبعض تحت نيران الاستعمار، وعذب أهلها وحرموا من نعيم بلادهم. وصلب المشروع الاستعماري أنه مشروع اقتصادي بحت لم يرتبط يوما بالأيديولوجيا ولا بالمعتقدات ولا بما يمكن أن يرسمه الإنسان من تهيؤات.
صحيح أن الاستعمار ترافق مع تصورات مختلفة عن البلدان التي تم استعمارها، وربما كما يلخص ذلك إدوارد سعيد، فإن الغرب استشرق الشرق من أجل أن يستعمره من حيث بناء صور نمطية تتطابق مع رغبات الغرب في جعل الشرق خلف ستائر الحضارة السميكة، وبالتالي يتم تقديم الاستعمار بوصفه استمرارا للجهود الأوروبية في تنوير البلدان المتخلفة، ونشر الحقيقة فيها. من هنا أيضا ارتبط الاستعمار بالتبشير. ولما لم يكن من السهل القول: إن أوروبا تورد لبلاد المسيح دينه.. فإن الحقيقة أن الاستعمار كان هو الدين المبشر به، الدين الذي يعد بالتقدم والتطور.
ولم تعن هاتان الكلمتان أكثر من السرقة والنهب بطريقة عكسية، بحيث تصبح المستعمرات هي البلاد المنهوبة وتقبع تحت عذاب لا ينتهي. وبالنظر إلى المشروع الصهيوني في فلسطين، فإن شيئا لم يختلف. في الحقيقة، إن الصهيونية حاولت منذ البداية أن تربط ظهورها بظهور القوميات الأوروبية. ومع أنه لا شيء من ملامح القومية يمكن الاستدلال عليه في الصهيونية سوى شوفينيتها الفائقة غير المسبوقة في التاريخ، والتي تعتمد على نقاء العرق اليهودي، وتوصيف كل ما سواهم بأنهم الأغيار، فالقوميات الأوروبية الحديثة ارتكزت على موروث وطني كبير ارتبط بالأرض وبوجود الناس عليها وبحاجتهم إلى التعبير عن حاجتهم الداخلية لتأمين كياناتهم السياسية، وهي، أي تلك القوميات، كانت تطورا طبيعيا لظهور الأفكار الكبرى خلال القرنين السابقين لظهورها مثل العقد الاجتماعي والفصل بين السلطات والإرث الفكري الكبير لكل كتاب ومفكري عصر النهضة.
والمؤكد الوحيد أن الظهور الحقيقي للصهيونية
ولمشروع سرقة فلسطين ارتبط بشكل كبير بظهور الاستعمار وترسخه وتفتح ملامحه مع
بدايات القرن العشرين.
أحد أهم ملامح المستعمرات مثلا كان بناء
المستعمر للمدن الكبرى التي يجعل منها مركزه على شواطئ البحار والمحيطات، وترك
بقية البلاد دون وجود مراكز استعمارية حقيقة. كانت الفكرة أن المستعمر يريد أن
يكون قريبا من وطنه الأم، وبالتالي يستطيع أن يأخذ السفينة ويهرب عند وجود أي
تهديد. كان ثمة حنين أيضا للوطن الأم الذي يواصل النظر إليه عبر البحر وتأمله.
وربما أن الكثير من الأفلام في السينما عكست هذه التوجهات.
إحدى أهم نتائج مثل هذا البناء بجانب التقسيم العشوائي للحدود في قلب القارة الأفريقية مثلا الذي ترك قبائل كاملة ممزقة بين أكثر من دولة، وبالتالي أثر على هيبة الدولة بعد عملية التحرر الوطني وأعاق عملية بنائها الحقيقة، كان أن الدولة الحديثة التي ورثت الهياكل الاستعمارية وجدت نفسها متمركزة في تلك المدن، فيما تتمدد الدولة وأطرافها المختلفة باتجاهات عدة دون مراكز. هذا أنتج ما بات يعرف مع نهايات القرن العشرين في البحث السياسي بالدول الآيلة للسقوط. إنها الدول التي لا تستطيع أن تسيطر على أراضيها. وربما أن جل الدول في أفريقيا لم تستطع بعد عملية التحرر أن تفرض سيطرتها على كل أراضيها. وبطريقة وبأخرى ورثت عن المستعمر الأساسية المتمثلة في التمركز على الشاطئ. وبطريقة مختلفة أنتجت حنينا من نوع آخر. حنين المستعمرات إلى مستعمريها السابقين.
بالنظر للمشروع الصهيوني، كان هيرتزل يفكر بأن
يكون مركز الدولة اليهودية في حيفا. مدينة بحرية. ولما استقر الرأي في قيادة
المشروع الكولونيالي الصهيوني على تل أبيب أي على يافا. كانت يراد لتل أبيب أن
تمحو يافا. وبعبارة أخرى، إن الصهيونية لم تركز مشروع بناء الدولة في المناطق
المفترض أن تكون مقدسة (وهذا بين مزدوجين) لها في فلسطين. بكلمة أخرى وفق هذا
الزعم في الضفة الغربية. لأن جوهر المشروع لم يكن له علاقة بأي شيء ديني بقدر كونه
استكمالا لمشروع استعماري غربي.
لذا لم يتم إنتاج التجربة الغربية في الاستعمار،
بل تم تطويرها وتنفيذ ما سعت إليه فرنسا مثلا في الجزائر من تحويلها إلى مقاطعة
فرنسية. والحقيقة أن الصهيونية أخذت المشروع الكولونيالي الغرب أميالا عدة إلى
الأمم، إذ استحدثت التطهير العرقي الشامل كوسيلة لتنفيذ مشروع إفراغ الأرض من
الإنسان. لاحظوا لم يقتصر الأمر على تل أبيب، فمراكز الوجود اليهودي بعد بدء مشروع
الاستيطان الاغتصابي تمت في الساحل، الساحل غير المقدس والملعون في التوراة وحيث
لا يدفنون أمواتهم، والساحل الذي يخلو من أي ذكر في التوراة باستثناء لعنة غزة.
(الأيام الفلسطينية)