تقارير

"الكونت" عبد السلام النابلسي.. من الأزهر إلى عرش الكوميديا

عبد السلام النابلسي كان من أهم نجوم الكوميديا على الشاشة الفضية في الخمسينيات
أطلق عليه الفنان الراحل يوسف وهبي "الكونت دي نابلسي" أو "نابلوز"، ولقب في الوسط الفني بـ "الكونت"، فيما لقبه بعض الصحفيين بـ"الدوق" بعد أن تخصص في أدوار الفتى الأرستقراطي المتكلف، واختار له الجمهور لقبا أكثر تحببا هو "ملك الإفيهات" المضحكة.

نشأ عبد السلام النابلسي المولود عام 1899 في مدينة طرابلس بلبنان في وسط عائلة متدينة من مدينة نابلس، فكان جده قاضي نابلس الأول وكذلك والده، أرسله والده إلى القاهرة ليلتحق بالأزهر الشريف، فحفظ القرآن الكريم وبرع في اللغة العربية، إضافة إلى إتقانه الفرنسية التي تعلمها في بيروت، لكنه عمل في الصحافة الفنية والأدبية عام 1925.

حين التقى عبد السلام النابلسي، "شاعر القطرين" خليل مطران، رجاه أن يقدمه إلى نجم المسرح آنذاك جورج أبيض، فأسند إليه "أبيض" دورا في مسرحية "يوليوس قيصر" وكانت تراجيديا وباللغة العربية الفصحى.

في ليلة العرض الأولى ما إن دخل النابلسي خشبة المسرح ومشى الخطوات الأولى حتى ضحك الجمهور. وما إن نطق العبارات الأولى من دوره حتى تعالت القهقهات. وحين عاد إلى الكواليس استقبله جورج أبيض بغضب شديد، وقال له نحن مسرح جاد ولا نهرج في التراجيديا. أقسم النابلسي أنه تقيد بتعليمات المخرج، وفي المشهد التالي كان الإثنان معا على الخشبة ومجددا قهقه الجمهور حين فتح عبد السلام فمه، وحين رجعا إلى الكواليس نصحه "أبيض" بالتخصص في الكوميديا والابتعاد عن التراجيديا.

فيما بعد سيتعرف النابلسي إلى "الشوام" الذين كانوا يعملون في الفن في مصر، وقدمته الفنانة اللبنانية آسيا داغر التي تلقب بـ"أم السينما المصرية" في فيلم "غادة الصحراء" إلى المخرج التركي المقيم في القاهرة وداد عرفي فأسند إليه دورا في الفيلم الصامت "غادة الصحراء" عام 1929.

وإن كان فيلم "وخز الضمير" عام 1931 للمخرج الفلسطيني إبراهيم لاما هو الذي فتح له أبواب السينما في الثلاثينيات في تلك الفترة، ووقف فيه إلى جانب آسيا وابنة أختها ماري كويني.
 
بدأ بعدها العمل في أفلام السينما الناطقة، فمثل في فيلم "عيون ساحرة" من إخراج أحمد جلال عام 1934. وفي عقد الثلاثينيات شارك بالتمثيل في عدة أفلام أبرزها "العزيمة" من إخراج كمال سليم وهو من كلاسيكيات السينما المصرية.
 
في عام 1938 جاءت النقلة المهمة في مشواره الفني، حينما رشحه المؤلف بديع خيري والمخرج كمال سليم لشخصية الشاب الأرستقراطي الذي يميل إلى حياة اللهو والمجون والغرور في فيلم "فريحة".

كان الفيلم نقلة مهمة له لأنه وضع يده على واحدة من أهم الشخصيات التي سوف يشتهر بها لاحقا في مشواره السينمائي، بعد أن يضيف لها من طابعه الكوميدي القائم على الفطرة.

وفي 1941 أسند إليه أحمد بدرخان دورا في فيلم "انتصار الشباب" إلى جانب أسمهان وفريد الأطرش.
ولم يكتف النابلسي بالتمثيل وإنما عمل كمساعد مخرج في العديد من الأفلام وخاصة أفلام يوسف وهبي، لكنه ما لبث أن اضطر للتفرغ التام للتمثيل بعد ازدياد الطلب عليه بعد انتشار موجة أفلام الكوميديا بعد الحرب العالمية الثانية.
 
شارك نجوم الغناء في فترة الخمسينيات في معظم أفلامهم ففي عام 1955 ظهر مع عبد الحليم حافظ في خمسة أفلام من بينها "شارع الحب" مع صباح والذي قدم فيه شخصية "حسب الله السادس عشر" الشهيرة و"يوم من عمري" مع زبيدة ثروت الذي كان دوره فيه موازيا لدور عبد الحليم. وكان من المفترض أن يشارك عبد الحليم في فيلم "معبودة الجماهير" مع شادية وهو الدور الذي ذهب إلى فؤاد المهندس.

وشارك فريد الأطرش في 11 فيلما سينمائيا.

كما شارك فاتن حمامة وعمر الشريف في فيلم "أرض السلام" للمخرج كمال الشيخ عام 1957 وقام فيه بتجسيد دور شديد الإنسانية حيث لعب شخصية رجل فلسطيني يعيش مع عشيرته تحت الاحتلال الإسرائيلي ويبدو طوال الفيلم متخاذلا وجبانا لكن النهاية تكشف أنه أول من ضحى بحياته أثناء مساعدة الفدائي المصري في عملية خلف خطوط العدو.

دخل النابلسي مضمار الأعمال الكوميدية أمام منافسين شرسين كان من بينهم إسماعيل يس ومحمود شكوكو وعبد الفتاح القصري ونجيب الريحاني وعلي الكسار.

من هنا قرر أن يستعيد شخصية الشاب الأرستقراطي التي بدأها في فيلم "فريحة" ليضيف إليها مجموعة من المفردات الخاصة به، مع طريقة جديدة في الآداء تعتمد على المبالغة، ليصنع بتلك الصيغة وصفته الفنية المركبة التي ميزته عن الجميع.

وكما توقع الخبراء، برع النابلسي في الشخصية الجديدة، وبات من أهم نجوم الكوميديا على الشاشة الفضية في الخمسينيات، لدرجة أنه كان يقدم نحو 20 فيلما في السنة، كما انتقل في تلك الفترة ومع تألقه الكوميدي، من شخصية "السنيد" إلى الدور الثاني، ثم إلى أدوار البطولة المطلقة في "حلاق السيدات" و"عاشور قلب السد".

رحل إلى لبنان بعدما تفاقمت مشاكله مع الضرائب والتي بلغت 13 ألف جنيه في حينها ولم تفلح محاولاته والتي بدأها في عام 1961 لتخفيضها إلى 9 آلاف وأخذ يرسل حوالة شهرية بمبلغ 20 جنيها وهو ما اعتبرته مصلحة الضرائب دليلا على عدم جديته في السداد فقررت الحجر على أثاث شقته المستأجرة في الزمالك والتي لم تكن بقيمة المبلغ المطلوب. وظلت القضية معلقة رغم تدخل العديد من رموز الفن في مصر وعلى رأسهم كوكب الشرق أم كلثوم.

وفي بيروت أصبح النابلسي مديرا لـ"الشركة المتحدة للأفلام" وساهم في رفع عدد الأفلام المنتجة كل عام في لبنان ومثل في عدد من أفلام الشركة، وخلال ستة أعوام شارك في 17 فيلما لبنانيا، إلى جانب صباح وسميرة توفيق ونجاح سلام وفهد بلان.

 حقق النابلسي رغبته القديمة في الاستقرار الأسري بعد أن ظل يوصف بلقب "أشهر عازب" في الوسط الفني وحتى وصل إلى الستين من عمره وذلك عندما تزوج من إحدى معجباته جورجيت سبات أو "جورجيت ثابت" وقام بإتمام إجراءات الزواج بفيلا صديقه فيلمون وهبي دون علم أسرة الفتاة فدخل في صراع مع الأسرة أرغمته على تطليقها قبل أن تحكم المحكمة بصحة الزواج ويتم الصلح بينهم.

تلاحقت الأحداث سريعا في الأشهر الأخيرة من حياته بعد أن أعلن بنك "انترا" في بيروت إفلاسه، الذي كان معناه إفلاس النابلسي هو الآخر لأنه كان يضع كل أمواله في هذا البنك.
 
وزادت شكواه من آلام المعدة، وأخذت حالته تزداد سوءا حتى رحيله ليلة 5 تموز/ يوليو عام 1968 حيث لفظ أنفاسه قبل وصوله إلى المستشفى، ولم تجد زوجته مصاريف الجنازة فتولى صديقه الفنان فريد الأطرش مصاريف الجنازة، رغم أن زوجته تنفي أنها لم تكن تملك مصاريف الجنازة، وإنما لم تكن قادرة على التصرف ببعض مما تركه لها زوجها الفنان الراحل، فتكفل فريد الأطرش بذلك.

بعد وفاته بأيام قليلة أعلنت الفنانة زمردة أنه لم يكن يعاني من مرض بالمعدة ولكنه كان مريضا بالقلب منذ عشر سنوات وأنه أخفى ذلك حتى عن أقرب الناس إليه حتى لا يتهرب منه المخرجون والمنتجون. وأعلن رسميا أنه توفي جراء أزمة قلبية حادة.

أما ما يخص الوفاة فأوضحت زوجته أنه كان يصور فيلما في تونس بصحبة فريد شوقي وصباح، وكان متعبا للغاية، وبعد عودته كان متواجدا في منزله بصحبة عدد من الأصدقاء، من بينهم نيازي مصطفى وفريد شوقي وهدى سلطان فشعر بتعب شديد، وحينما حضرت سيارة الإسعاف توفي في طريقه إلى المستشفى وهو ممسك بيد زوجته التي توفيت عام 2018 بعد معاناة مع المرض.

وجورجيت عرفت فيما بعد في الكثير من الأعمال الفنية نذكر منها "المغامرة"، "حياتي"، "عازف الليل"، "حول غرفتي"، "البخلاء"، "الدنيا هيك"، ووقفت إلى جانب الفنان اللبناني الشهير عبد المجيد مجدوب.

وبلغ مجموع الأفلام التي شارك فيها النابلسي نحو 140 فيلما.

لقط صبغ النابلسي جميع الأدوار الكوميديا التي قدمها للسينما ببصمته الخاصة ووضع عليها توقيعه الشخصي، وكان معظم الكتاب يكتبون النص وفي ذهنهم النابلسي تحديدا الذي كان يقوم أحيانا بمناقشة الكاتب ببعض الجمل حتى تناسب طريقته في الإلقاء.