يبدو المشهد السياسي السوداني أقرب إلى لوحة سيريالية يصعب فرز خطوطها، أو كأنه مركب كيميائي فريد ليس كبقية المركبات الكيميائية، يستطيع الكيميائي في معمله فرز عناصرها وإرجاعها إلى أصلها، كعناصر مستقلة فيما قبل تفاعلها بعضها ببعض. اليوم وعقب سقوط نظام الرئيس عمر البشير يتصدر المشهد عسكريون ومدنيون؛ العسكريون متمثلون في الجيش القومي وما يعرف بقوات الدعم السريع، بينما المدنيون تمثلهم قوى تحالف الحرية والتغيير. ولكل من الفريقين إشكاليات خلقت تعقيدات المشهد السياسي الراهن.
العسكريون بشقيهم تنقصهم الدربة السياسية، وإن كان الجيش كمؤسسة قومية عريقة تعمل بشكل تلقائي على تجاوز هذه الإشكالية، باعتبارها إشكالية ظرفية مرتبطة بالقادة الحاليين كأشخاص، إلا أن هذه الإشكالية بالنسبة لقوات الدعم السريع تبدو إشكالية بنيوية ومتأصلة، لأسباب متعلقة بنشأتها وبذهنية قائدها.
أما المدنيون فهم غير أنهم شركاء متشاكسون، يتسلط عليهم اليساريون والشيوعيون، فكل ما يجمعهم ويوحدهم العداء السافر لخصومهم الإسلاميين حكام الأمس، فجعلوا من الفترة الانتقالية موسما للانتقام والتمكين لكوادرهم، فغادرهم حزب الأمة بزعامة الصادق المهدي، لينحصر تحالف الحرية والتغيير في أقلية يسارية تحاول استباق الانتخابات بتمكين يغنيها عن الكسب الانتخابي الذي لا حظ لهم فيه، وفي ذلك هروب من محاولات تحديد الأوزان الحقيقية عبر الانتخابات الحرة.
وبينما ضغط المدنيون لإزاحة اثنين من الجنرالات من ذوي الخبرة السياسية، وهما رئيس اللجنة السياسية بالمجلس العسكري السابق ومدير الأمن الأسبق الشهير بقوش، فانكشف ظهر العسكريين سياسيا، لا يزال العسكريون يسيطرون على مفاصل القوة العسكرية والاقتصادية في طول البلاد وعرضها، ويستطيعون قلب الطاولة على المدنيين في أية لحظة.
الفريقان اليوم يحاولان التبرؤ من مذبحة فض الاعتصام أمام القيادة العامة الذي استمر إلى ما بعد سقوط نظام البشير، والراجح أن فض الاعتصام تواطأ فيه الطرفان، رغم أن تحالف اليسار يحاول إلقاء المسؤولية على العسكريين وحدهم، بيد أنهم متورطون بدون أدنى شك، فقد كانت ساعة الفض ساعة سال لعابهم سيلا عرما، وبقيت عيونهم جاحظة تلقاء كراسي السلطة، وقد انتهى دور الشباب الذين تظاهروا واعتصموا، فكان لا بد من فضهم بأي طريقة وبأي وسيلة دون أن يقال لهم إن سعيكم مشكور، فقد كان المهرولون إلى السلطة في عجلة من أمرهم لإكمال مراسم الزواج السلطوي مع العسكريين.
ولعل اللاعب الأكثر جدلا في المشهد السياسي السوداني هو الجنرال محمد حمدان دقلو الشهير بـ"حميدتي"، قائد قوات الدعم السريع الذي يصر أعداؤه على مناداة قواته بمليشيات الجنجويد.
بالرغم من أن تحت سيطرة حميدتي قوات ضاربة قوامها نحو 40 ألف مقاتل وأموالا طائلة، لكنه لا يستطيع أداء دور سياسي احترافي، فهو كما ينظر له من الخارج مثل صاحب شركة أمنية كبرى كـ"بلاك ووتر" تقدم خدماتها الأمنية مقابل المال، فمثلما قدم خدماته لنظام البشير الذي كان سببا في ظهوره، فضلا عن الخدمة التي قدمها للاتحاد الأوروبي في مجال محاربة الهجرة غير الشرعية عبر المتوسط وقبض ثمنها، يقدم حميدتي اليوم خدماته في اليمن ومطلوب منه بإلحاح خدمات في ليبيا بجانب الجنرال خليفة حفتر.
ولعل قوات الدعم السريع لا يعتبرها الكثيرون قوات نظامية ولا هي في الحقيقة قوات غير نظامية، فقد تم ضمها للجيش السوداني شكليا، لكنها احتفظت باستقلاليتها وبطبيعتها غير النظامية، حيث بقيت على إشكالاتها التكوينية من حيث الانتماء الجهوي لأفرادها، ومن حيث التزامها العسكري وفقا لما هو متعارف عليه في الجيوش النظامية حول العالم.
ولعل البشير كان قد صنع حميدتي في 2010 ليستعين به في مواجهة أنصاره من الإسلاميين، عندما شعر بأنهم ليسوا على قلب رجل واحد من إعادة ترشيحه واستمراره في الحكم مرة بعد مرة، فهو لم يعد يثق بالجيش الذي لهم فيه وجود مؤثر، فضلا عن مواجهة حركات تمرد دارفور المسلحة لمعرفة حميدتي بالمنطقة كأحد أبنائها.
وحميدتي المولود في 1975 انقطع عن الدراسة في سن الخامسة عشرة، بعدما توجه لممارسة تجارة الإبل والقماش وحماية القوافل. عُرف عنه في طفولته قيادته لمجموعة صغيرة من الشباب الذين كانوا يعملون على تأمين القوافل وردع قطاع الطرق واللصوص.
وعليه، لابد من فهم الرجل في هذا الإطار ولا يجب تحميله رهق السياسة باعتبارها لعبة لها أصول وقواعد، ولا يحمل حميدتي أي عقيدة أو إيديولوجيا سياسية، فلا يتبنى علمانية ولا اشتراكية ولا شيوعية ولا (الإسلام هو الحل). ولذلك فهو لا يستطيع مخاطبة ضمير الشارع بدون عقيدة سياسية. ولذلك لا يشعر بالأمان، فهو يعلم أن التيارات السياسية تستميله، وهي في سعيها للاستفادة من قوته العسكرية مرحليا وتكتيكيا. في آخر ظهور إعلامي لحميدتي بدا حديثه غير متماسك، حيث اتهم المؤتمر الوطني الحزب الحاكم في عهد البشير والشيوعيين بأنهم يعملون ضده؛ فهل اتفق الشيوعيون والإسلاميون على شيء في مسيرة عدائهم لبعضهم، وهو معاداة حميدتي؟.
لقد كانت أولى محاولات حميدتي الشب عن الطوق وإثبات وجوده في آخر سنوات حكم البشير، حينما نقل معركته مع وإلى إحدى الولايات المهمة والمقربة من البشير إلى العلن. فقد اتهم حميدتي والي تلك الولاية بشن حملة منظمة لاستهداف قواته وتشويه صورتها بالتزامن مع جهات معارضة في الخارج. واعتبره أكثر من ساهم في رسم صورة ذهنية سالبة عن قواته، وكان الوالي قد طالب قوات الدعم السريع بالخروج من ولايته على خلفية جريمة قتل اتهم أحد المنتمين لها بارتكابها، وذهب حميدتي بعيدا حينما طالب بمحاكمة الوالي، وقال إن مكانه السجن وليس أن يحكم ولاية، ولم يقم البشير بأي إجراء ضد حميدتي لخطورة القوات التي يقودها وصعوبة السيطرة عليها إذا ما انفلتت الأمور وسرى فيها فيروس التمرد.
(الشرق القطرية)