تعدّ ليلة القدر أقدس ليلة
في السنة الهجرية عند المسلمين، فهي الليلة التي نزلت فيها أولى آيات من القرآن
على النبي محمد، وغدت تلك اللحظة من العام التي يعتقد المسلمون بأن عبادتهم فيها
يتضاعف أجرها ليصل إلى الذروة.
في مثل هذه الليلة قبل ثلاث سنين، أحكم محمد بن
سلمان، أقل أمراء آل سعود تدينا، خطته لإسقاط محمد بن نايف، ابن عمه الذي يكبره
سنا، ليصبح بذلك هو نفسه ولي العهد، ويحصل على البيعة لنفسه من باقي أفراد العائلة
داخل أحد القصور الملكية القريبة من الكعبة في مكة. وشتان بين تلك اللحظة وهذه.
انقلاب القصر
قبل ثلاث سنين، كان الأمير الشاب
في ذروة قوته. فقد مكنه انقلاب القصر من إحكام قبضته على التاج، ولا أدل على ذلك
من أن الكثيرين من أفراد العائلة، الذين ما لبث بعد حين أن سجنهم، سارعوا حينها
إليه في مكة يجثون أمامه على ركبهم ويقبلون يده.
كانت مكة تعج بالعباد، وكانت
المملكة في غاية الثراء، تفرض إرادتها على اليمن، وقد بلع العالم بأسره طعم التوهم
بأن مصلحا قد أتى ليغير ويبدل، وليجلب الحداثة، ليس فقط إلى هذا البلد المتخلف، بل
وإلى المنطقة بأسرها.
واليوم، ولأول مرة منذ عقود، ها هي مكة خاوية
تماما إلا من قلة مختارة من المصلين الذين يفصل الواحد منهم عن الآخر متران. وخلف
دائرة الفنادق الفخمة المحيطة بالكعبة، يُحبس آلاف العمال الأجانب داخل أحياء
شعبية فقيرة تكاد تنعدم فيها الظروف الصحية الملائمة، وتتناثر القمامة في طرقاتها،
ولا سبيل أمامهم للوصول إلى منظومة الرعاية الطبية، بينما تنتشر في أوساطهم أعلى
معدلات للإصابة بعدوى كوفيد-19 في البلاد.
وما مكة إلا نموذج لما آلت إليه الأوضاع في
بقية البلد. فخلال خمسة أعوام فقط، ارتفع دين المملكة الخارجي بشكل هائل ومتسارع
من 12 مليار دولار في 2014 إلى 183 مليار دولار بنهاية 2019. وخلال تلك الفترة
ذاتها، انخفض احتياطي النقد من 732 مليار دولار إلى 499 مليار دولار –بخسارة قدرها
233 مليار دولار.
في أكتوبر/ تشرين الأول من 2018، أعلن محمد بن
سلمان أن صندوق الثروة الرئيسي للمملكة، الذي يعرف باسم صندوق الاستثمار العام،
كانت موجوداته تقترب من 400 مليار دولار، وأنه سيتجاوز 600 مليار دولار بحلول عام
2020. ولكن قيمته اليوم لا تتجاوز 320 مليار دولار.
كان أي جزء من هذه المبالغ كفيلا بضمان تعافي
القطاع الاقتصادي والصناعي وتوفير الوظائف ومستويات المعيشة الكريمة للسعوديين.
ولكن، بدلا من ذلك، ها هو البلد يقف على عتبة فترة ممتدة من التقشف، بينما
يستمر حكامه في العيش في أوضاع من البذخ يصعب على المرء تصورها.
شخص غير مرغوب فيه
منذ أن وقعت جريمة قتل الصحفي
السعودي جمال خاشقجي، لم يزل محمد بن سلمان شخصا غير مرغوب فيه داخل واشنطن، بل
وحتى في كل واحدة من العواصم الأوروبية، ولا يسلم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من
عاصفة من النقد اللاذع كلما أشار إليه بكونه صديقه. واليوم يقبع ما لا يقل عن
عشرين أميرا داخل السجن بعد تعرضهم لسلسلة من عمليات التطهير، ولم يعد ممكنا إنكار
أن المملكة في عهده فقدت المال والنفوذ والسلطة والأصدقاء.
لم يعد واردا اليوم تصور أن يقوم محمد بن
سلمان كما كان يفعل من قبل برحلات ذهاب وإياب إلى لندن أو واشنطن أو وادي
السيليكون حيث كان يحتفي به علية القوم.
صحيح أنه سوف يستضيف قمة مجموعة العشرين في
الرياض في نوفمبر/ تشرين الثاني -هذا فيما لو سمح لها بأن تمضي قدما- ولكن مع هبوط
سعر النفط، من المحتمل أن يعاد النظر في استمرار انضمام بلده إلى تلك النخبة
المختارة من البلدان. في هذه الأثناء، لم يعد ثمة شك في أن ماركة الأمير الشخصية
قد نفقت.
بالطبع، لو كنت قبل ثلاث سنين قد قلت لأي شخص
إن عواصم الدول حول العالم ستخلو من الناس بسبب فيروس، لما صدقك كثير من الناس.
وكذلك ما كان كثيرون ليصدقوا بأن تراجع الثروة السعودية سيكون حادا وسريعا بهذا
الشكل.
فما الذي حدث بالضبط في تلك الليلة قبل ثلاث
سنين؟ ولماذا شن محمد بن سلمان ثلاث عمليات تطهير، كانت اثنتان منها موجهتين ضد
أفراد عائلته، مباشرة بعد أن حظي بالتتويج؟
الهيئة التي ولدت ميتة
يستحق الأمر العودة إلى تلك
الليلة الدرامية قبل ثلاث سنين. حينها، قيل لنا إن الأمير محمد بن نايف جرد من
جميع مواقعه، وإن محمد بن سلمان جرى تنصيبه بعد تصويت تم داخل هيئة البيعة التي
كان قد شكلها الملك السابق عبدالله. حصل ذلك في الفجر، وحينها نُشر مقطع فيديو
يبدو أنه أعد على عجل يظهر فيه محمد بن سلمان وهو يقبل يد محمد بن نايف.
ولكننا نعرف الآن أن هيئة البيعة لم تجتمع
فعليا، ولربما لم تكن في نصابها. إنما الذي حصل أن عملية التصويت تمت عبر الهاتف.
بمعنى آخر، كان التصويت ذاته غير شرعي حتى بمقتضى القواعد التي وضعت له.
كانت هيئة البيعة قد ولدت بموجب مرسوم خاص في
2006، وكان يقصد منها أن تشكل خطوة إصلاحية مهمة داخل منظومة ملكية مطلقة لا دستور
لها، وذلك بهدف تغيير الطريقة التي يعين من خلالها الملوك في المستقبل انتقالا من
حالة "من يملك القوة يملك الحق" إلى حالة يتخذ فيها نوع من الإجراء الذي
يقترب من تحقيق الإجماع. جميع أعضاء الهيئة الثلاثة والأربعون هم من أفراد العائلة
الملكية الحاكمة.
إلا أن المشروع ولد ميتا، فقد أعفى الملك
عبدالله نفسه من العملية، وتوفي حتى قبل أن تُفعل. فقد تم تعيين ثلاثة ولاة عهد هم
الأمير سلطان بن عبدالعزيز والأمير ناف بن عبدالعزيز والأمير سلمان بن عبدالعزيز،
دون أن يكون لهيئة البيعة أدنى دور في ذلك.
بالرغم من ذلك، سعى الملك عبدالله نحو استخدام
الآلية لتنصيب ولده الأمير متعب، بحيث ينتقل الحكم إلى أبناء الجيل التالي. لم
يتسن له القيام بذلك في حركة واحدة، فاستحدث منصبا جديدا هو "ولي ولي
العهد"، وكانت خطته تستهدف إبعاد سلمان من ولاية العهد وتعيين الأمير مقرن في
ذلك المنصب بحيث يكون متعب نائبا له، إلا أن المنية عاجلته قبل أن يستكمل تنفيذ
خطته.
فشل ذريع
عندما ارتقى سلمان إلى العرش،
بادر بادئ ذي بدء بتعيين مقرن وليا للعهد ومحمد بن نايف نائبا له. وبعد ثلاثة شهور
استبدل مقرن بمتعب، بينما عين محمد بن سلمان وليا لولي العهد.
وبهذا الشكل، غدت تلك الليلة
المصيرية أول اختبار كبير لهيئة البيعة، التي فشلت فشلا ذريعا. وكانت الهيئة قد
فقدت رئيسها مشعل بن عبد العزيز، الذي توفي في مايو/ أيار 2017 ولم يخلفه أحد في
منصبه. تقضي الأحكام المنظمة لأعمال الهيئة بأن نصابها يتحقق بحضور ثلثي عدد
أعضائها على الأقل، شريطة أن يكون لها رئيس، وأن يمرر التصويت بأكثر من نصف عدد
الأعضاء.
لم يعقد اجتماع فعلي، ولم
يكن للهيئة رئيس، وبذلك لم يتحقق النصاب. وكان قد أذيع فيما بعد بأن 31 من الأعضاء
الذين يبلغ عددهم 34 صوتوا لمحمد بن سلمان. ولكن تم ذلك عبر الهاتف. ولذلك يغلب
الظن على أن خلع محمد بن نايف وارتقاء محمد بن سلمان إلى منصب ولي العهد كان إجراء
غير قانوني وغير شرعي.
كانت تلك مسألة بالغة الأهمية بالنسبة للأمير
الشاب. فقد ألقت بظلال دستورية عليه منذ اليوم الأول لحكمه، ولعلها تفسر حساسيته
المفرطة بالذات تجاه اثنين من الأمراء، وكلاهما يقبع حاليا في السجن.
أما الأول، فهو محمد بن نايف، الذي اتهم بداية
بالإدمان على المخدرات، وتوجه له الآن تهمة الخيانة وتدبير محاولة انقلابية. وأما
الثاني، فهو شقيق الملك، الأمير أحمد بن عبدالعزيز، الذي عاد من لندن وكانت غايته
الصريحة من ذلك أن يُنصب رئيسا لهيئة البيعة حتى يتمكن من الحيلولة دون ارتقاء
محمد بن سلمان إلى العرش.
لم يخف الأمير أحمد حقيقة أنه لم يصوت لابن
أخيه في تلك الليلة قبل ثلاث سنين، كما لم يتوجه إلى مكة ليبايع ولي العهد.
ورقة خاسرة
طالما بقي هذا الأميران على قيد الحياة،
فإن محمد بن سلمان يعلم بأن الخطر سيظل محدقا به شخصيا. ولذلك فقد أقدم والقلق
يساوره، خلال الحملة الأخيرة، على استهداف أربعة من أعضاء هيئة البيعة. تعرض ثلاثة
منهم للسجن والاستجواب، بينما تمكن الرابع من الحصول على جنسية قبرصية؛ سعيا منه
للفرار.
والآن، يقال إن بعض الأمراء المحبوسين
يستخدمون مؤسسات الضغط في واشنطن لتذكير الكونغرس بما آل إليه مصيرهم – وبذلك يظل
الخطر الذي يشكلونه على محمد بن سلمان قائما.
كان القصد من البيعة أن تكون آلية لنقل ولاء
آل سعود من ملك إلى آخر، لكن ذلك لم يحدث. ونظرا لأنه لم يحدث فقد نجم عن ذلك
انطلاق سلسلة من عمليات التطهير، مما عمق الأزمة السياسية التي يواجهها ولي العهد
بينما يستعد لقطف الثمرة التي يراها قد أينعت.
لم يقم بشيء منذ ذلك الوقت إلا وفسد: الحرب في
اليمن، الخصخصة الجزئية لشركة أرامكو، بناء مدينة مستقبل في الصحراء باسم نيوم،
والتنويع الاقتصادي بموجب رؤية 2030، والمواجهة مع إيران، وسعر النفط، والآن فيروس
كورونا.
وحتى ترامب نفسه، صدرت عنه إشارات واضحة بأن
المملكة العربية السعودية لم تعد ضمن قائمة أولوياته. ولذلك لم يصدر عنه أي رد فعل
عندما هاجمت طائرات مسيرة وصواريخ كروز مصنعة إيرانيا مرفقين من مرافق النفط
السعودي ودمرتهما، ما نجم عنه تخفيض الإنتاج إلي النصف لعدة أسابيع. ثم مضى ترامب
قدما وسحب صواريخ باتريوت الأمريكية من المملكة، بعد أن توصل إلى صفقة سرية مع
إيران تقضي بخفض التصعيد.
يحمل محمد بن سلمان في جيبه ورقة خاسرة. ومثله
في ذلك مثل أي مقامر آخر، كلما تكبد خسارة ضاعف من رهاناته، وهو يفعل ذلك هنا من
خلال الاستيلاء على العرش من والده الذي يخضع لسيطرته. من غير المحتمل أن تؤدي هذه
الحركة إلى جلب الاستقرار للمملكة التي تعيش لحظة من السقوط الحر، بل الأغلب أن
يستمر سقوطها، وما زال أمامها مسافة طويلة قبل الوصول إلى القعر، ومع ذلك لا يوجد
أحد ممن يعيشون في داخل البلد ومن حوله إلا ويشعر بذلك السقوط.