يُعد الرئيس في الولايات
المتحدة شاغلا لمنصب حكومي رفيع يحصل عليه بالانتخاب الحر لمدة أربع سنوات قابلة
للتجديد مرة واحدة. وتمنح الوظيفة الرئيس مهاما محددة مقابل مرتب يقدر
بـ400 ألف دولار سنويا. ويعرف الرئيس أن سلطات
منصبه مقيدة بدستور يقدسه الأمريكيون كما يُقدس أصحاب ديانات سماوية كتبهم المقدسة.
إلا أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رئيس
مختلف، فهو لم يقرأ الدستور ويبدو أنه لا يفهم طبيعة مواده.
قبل أيام أكّد ترامب أنه حين يتعلق الأمر
بإعادة فتح الاقتصاد، فإن «رئيس الولايات المتحدة هو من يصدر القرارات»، وأضاف
«حين يكون شخص ما رئيس الولايات المتحدة، فإن سلطته تكون كاملة. لا يمكنهم فعل أي شيء
من دون موافقة رئيس الولايات المتحدة».
وأثارت تصريحات ترامب جدلا سياسيا واسعا على
خلفية دستورية تتعلق بسلطات الرئيس مقابل سلطات حكام الولايات. واضطر ترامب لتعديل
موقفه ليقول قبل أيام إنه «سيتواصل مع حكام الولايات للتنسيق في إعادة فتح
الاقتصاد».
ومنح الدستور الرئيس والحكومة الفيدرالية
سلطات واسعة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية وقضايا الدفاع وصك العملة، إلا أن
الدستور أكد بوضوح على الطبيعة اللامركزية للحكم ومنح الكثير من الصلاحيات لحكام
الولايات. وبالفعل لم تصدر قرارات تعطيل المدارس وأوامر البقاء بالمنازل والإغلاق
العام للمحال والمنشآت التجارية والصناعية ووقف الفعاليات من الرئيس ترامب أو
البيت الأبيض، بل من حكام الولايات، وفي بعض الحالات من عُمد المقاطعات داخل
الولايات.
وذكر حاكم ولاية نيويورك أندرو كومو الرئيس
ترامب بثوابت الدستور المقدسة وخاصة ما يتعلق بتوزيع سلطات متوازنة بين حكومات كل
ولاية والحكومة الفيدرالية.
وقال كومو «في بداية تأسيس الولايات المتحدة
كان هناك خيار بين رئيس جمهورية وملك، واخترنا رئيسا للجمهورية. دونالد ترامب ليس
ملكا». وأضاف كومو «لن أترك الرئيس يقول إن لديه سلطة مطلقة على الأمة دون تصحيح،
الولايات هي التي أسست الحكومة الاتحادية وليس العكس، ليس لدينا ملك ولم نكن نرغب في
تنصيب ملك، ولذلك اخترنا الدستور».
***
كذلك دفعت تطورات انتشار فيروس كورونا ترامب
ليقدم نفسه كرئيس «دولة في حالة حرب» ضد ما وصفه «بعدو غير مرئي» قبل أن يضيف خلال
ظهوره المتكرر في المؤتمر الصحفي بالبيت الأبيض «أرى نفسى، بطريقة ما، رئيسا في
وقت حرب، نحن نخوض حربا، وهو موقف صعب جدا جدا».
ودفعني وصف ترامب نفسه بأنه رئيس في حالة حرب
لأقارنه بنظرائه من رؤساء أمريكا السابقين ممن حكموا في فترات الحروب الكبرى التي
خاضتها بلادهم. وتترك مقارنة قرارات ترامب بنظيرتها التي اتخذها رؤساء «حالة
الحرب» في التاريخ الأمريكي الفرد مدركا ضآلة ما قام به ترامب حتى الآن، أتعرض هنا
لرؤساء أمريكا أثناء الحرب الأهلية والحربين العالميتين الأولى والثانية.
***
اتخذ أبراهام لينكون أثناء الحرب الأهلية
قرارات شديدة الأهمية في الفترة ما بين 1861م إلى 1865 مما أدى لحفظ الاتحاد الأمريكي
من الانفراط والتقسيم إبان حرب كادت تقسم دولة الاتحاد الجديد لدويلات صغيرة. ونجح
لينكون في إعادة الولايات التي انفصلت عن الاتحاد بقوة السلاح، وإنهاء العبودية
قانونيا عام 1865. وفي سبيل ذلك شكل لينكون جيشا من الولايات الشمالية قوامه مليون
رجل في وقت بلغ فيه عدد السكان 20 مليون نسمة، أي إن قوام الجيش بمعايير وأرقام
الوقت الحالي يتخطى 16 مليون مقاتل.
***
ومع بدء الحرب العالمية الأولى في القارة
الأوروبية عام 1914، لم يدخل الرئيس وودرو ويلسون الحرب إلا مضطرا، فقد كان
أكاديميا حاصلا على الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة جون هوبكينز، وترأس
جامعة برينستون المرموقة قبل أن يصبح رئيسا.
وقاد ويلسون بلاده خلال الحرب، وأدخل قانون
الخدمة العسكرية الإلزامي، فتم تجنيد عشرة آلاف فرد يوميا تم إرسالهم إلى فرنسا
للمساهمة في المجهود الحربى. وأقدم ويلسون برفع الضرائب على الدخل، واقترض مليارات
الدولارات من الشعب عن طريق إصدار سندات حكومية، وأسس مجلس الصناعات الحربية، وأمم
كل نظم السكك الحديدية في البلاد.
وعقب الحرب حصل على جائزة نوبل للسلام عقب
طرحه فكرة تأسيس عصبة الأمم، الذي كان له الدور الرئيس في خروجها للنور.
***
ثم جاءت الحرب العالمية الثانية أثناء رئاسة
فرانكلين روزفلت الذي فاز في أربعة انتخابات رئاسية متتالية وبرز كشخصية مركزية
قبل اندلاع الحرب من خلال محاربة وانتصاره في معركة الكساد الكبير الذي ضرب
الولايات المتحدة عام 1929. وخلال أول مائة يوم في منصبه، أقر روزفلت مجموعة
قوانين اتحادية لإغاثة الشعب من خلال خلق وظائف حكومية لملايين العاطلين وإصلاح
وول ستريت.
وبعد الهجوم الياباني المفاجئ على بيرل هاربور
في ديسمبر 1941، نال موافقة الكونجرس لإعلان الحرب على اليابان، ثم أعلن الحرب على
ألمانيا بعد أيام قليلة. أشرف روزفلت على تعبئة الاقتصاد الأمريكي لدعم المجهود
الحربى في الجبهات الأوروبية والآسيوية، وقام بتنفيذ استراتيجية حرب على جبهتين والتي
انتهت بهزيمة دول المحور قبل أن يشرف على تطوير وإنتاج أول قنبلة ذرية أُلقيت على اليابان
بعد وفاته عام 1945. وأشرف روزفلت على إنشاء الأمم المتحدة وتأسيس نظام بريتون
وودز لتنظيم الاقتصاد العالمي.
***
غيرت الحروب الكبرى وجه أمريكا والعالم، ولن
تكون الحرب العالمية ضد فيروس كورونا استثناء.
يتوقع وصول عدد الموتى لمئات الآلاف وإصابة
عدة ملايين حول العالم، ومع توقف عجلة الاقتصاد العالمي مع استمرار غلق الشركات
والمصانع والمدارس والجامعات وبقاء أكثر من أربعة مليارات من البشر في حظر منزلي
غير مسبوق، لن ندرك بدقة حجم الخسائر في هذه المعركة.
ونظريا تتيح الصورة القاتمة السابقة ظرفا
تاريخيا نادرا للرئيس ترامب يمكن من خلاله القفز لمكانة الرؤساء العظماء في
التاريخ الأمريكي، وستكشف الأيام القادمة إذا ما كان ترامب قادرا على استغلال هذا
الحدث، أم إنها ستكون فرصة نادرة أضاعها رئيس أمريكي لم يفهم مهام وظيفته إذ أراد
أن يكون ملكا.
(الشروق المصرية)