تصيبك الدهشة وأنت تكتشف حجم «المُشتركات» بين المتشددين من أتباع الديانات والمعتقدات المختلفة، في تعاملهم مع جائحة كورونا... «التشدد»، كما التطرف، لا دين له، وهو عابر للحدود والقارات والأقوام والمعتقدات والأجناس.. المتشددون على اختلاف مللهم ونحلهم، مبثوثين بيننا، وهم على قلتهم، إلا أنهم ذوو أثر كبير.
في إسرائيل، تواجه الحكومة والجهات الصحية،
عنتا ومشقة استثنائيين، في إقناع «فقهاء» التيار الأورشليمي - الحريدي، بالتقيد
بتعليمات السلامة العامة وإجراءاتها، سيما في مستوطناتهم المنغلقة على نفسها، حيث
سجل هؤلاء رقما قياسيا في نسب وأعداد الإصابات بفيروس كورونا... يعتقدون بأن
الفيروس الخبيث لا يصل إلى كُنسهم ومدارسهم الدينية، ولن يمسهم بسوء طالما أنهم
يمارسون طقوسهم وعباداتهم، بما فيها الجماعية، حتى أن بعض «حاخاماتهم» لم يتوان عن
تنظيم الدروس الدينية سرا في المنازل، بعد أن كثفت أجهزة الرقابة عملها على
مدارسهم وكنسهم المعروفة... يقال أن معدل الإصابة في صفوفهم تتجاوز بثمانية أضعاف
المعدل العام.
في لبنان، رأينا «خوري جليل» مدجج بكل الشارات
الكنسية التي تعكس رفعة مقامه، وهو يسخر من الفيروس، ويتمرد على التعليمات التي
تمنع «المناولة» في الكنيسة والتمسح بالأيقونات المقدسة... الفيروس الخبيث لا يمكن
أن يصيب دم المسيح وجسده، ولا يمكن للمؤمن أن يُصاب بكورونا، وهو في الكنيسة... ليست
لدينا معلومات ولا معطيات عن النتائج الكارثية لمثل هذا السلوك الجاهل الذي يتنكر
للعلم ويتمرد على الصالح العام.
أخبرني نجلي الأكبر في واشنطن – سياتل، عن
كنائس لإنجيليين متطرفين، ترفض الرضوخ لتعليمات التباعد الاجتماعي “social distancing”... أحد رجال هذه الكنيسة
يواظب على دعوة «المؤمنين» بالمئات للاستماع إلى مواعظه، قاطعا الوعود لجمهرة
المؤمنين بعدم التعرض للإصابة، لكأن الفيروس الشرير، يميز بين أخيار الناس
وأشرارهم، كما يفعل القس الإنجيلي ذاته، في عظاته ومواعظه.
قرأنا وشاهدنا، رجال دين مسلمين، سنة وشيعة،
يأتون أمرا فريا كهذا... بعضهم يصر على فتح المساجد، فإن وجدها مقفلة، بادر إلى
كسر قفلها وفتحها عنوّة، وبعضهم الآخر يجد فسحة من الأرض على مقربة من المسجد ليؤم
بالمصلين المحتشدين خلفه، ودون اكتراث بتعليمات الوقاية والاحتراز، منطلقا في
«بدعته» من فرضية الحاجة للمسجد وصلاة الجماعة للدعاء والاستغفار في زمن الجائحة،
ومن دون أن يدري، بأنه سيكون سببا في تفشي الكارثة... لكأن الدعاء والاستغفار لا
يتحققان إلا بهذه الوسيلة.
جموع المتعصبين من المتدينين الشيعة، لبّوا
نداءات بعض مراجعهم، وهبّوا في ذروة تفشي الفيروس، خفافا وثقالا، ومن كل فجّ عميق،
لزيارة مرقد الإمام موسى الكاظم، وقبلها رأينا نظراء لهم، يلعقون بألسنتهم الأضرحة
«المذهبة» لبعض الأئمة في قُم، في تعبير عن المكابرة والتمرد، على كل ما تعارفت
عليه البشرية من تعليمات وتوجيهات تتوخى السلامة للجميع.
في الهند، رأينا جموعا من المتعبدين الهندوس،
يتحلّقون بكثافة حول بعضهم البعض، لارتشاف جرعات من «بول البقر»، ففيها الدواء من
كل علّة، والشفاء من كل مرض، لكأنه «اللقاح» الذي تنتظره البشرية بفارغ الصبر... هؤلاء،
لا يصغون لإرشادات وتعليمات حكومتهم وأجهزتها المختصة، قدر انصياعهم كالقطيع،
لأفكار ومعتقدات يتشدق بها «فقهاء الظلام» في معابدهم.
البشرية على اختلاف أجناسها ومعتقداتها
وألوانها وألسنتها، وتباين درجة تطورها العلمي والتكنولوجي، لا تكف عن إنتاج
«التطرف» و»الشذوذ»، فالتطرف والتشدد لا ملّة له ولا دين، وهو باق فينا إلى أمد
غير منظور، وقد كشفت ضائقة كورونا عن بعض «مُشتركاتنا»، الجيدة منها والسيئة من
أسف.
عن صحيفة
"الدستور" الأردنية