نعيش جميعا في المراحل المبكرة من جائحة فيروس كورونا العالمية التي يفزعنا تأثيرها طويل الأمد المحفوف بالشك وعدم اليقين. وحياتنا تتغير بالفعل، لكن ليس للأفضل. فإلى جانب معدلات الإصابة والوفيات التي تتزايد باستمرار، فقد مئات الملايين مصادر رزقهم، ويعيش مليارات آخرون إما في ظل إغلاق مفروض من الحكومات أو في حجر ذاتي. وحتى في هذه المرحلة المبكرة، تتجاوز خسائر الاقتصاديات على مستوى العالم سبعة تريليونات دولار.
وهنا في الولايات المتحدة، أصبحت مراكز المدن التي كانت تضج بالنشاط ذات يوم مدن أشباح، والمدارس أغلقت أبوابها. وبعض الأنشطة الاقتصادية تعرضت لخطر الإغلاق، وأُلغيت الصلوات في الكنائس والمساجد والمعابد، والمصالح الحكومية غير الأساسية توقفت عن العمل، وانهارت البورصة، وتزايد اعتماد الناس الخائفين من الفيروس على تكنولوجيا الاتصالات للعمل والتسوق، وللتواصل مع أصدقائهم وذويهم.
وفي ظل هذه الأجواء، ظهرت صعوبات الانضباط الشخصي. فمثلا، وضع إغلاق المدارس أعباء جديدة على المدرّسين والطلاب والآباء. فمع بقاء الأطفال الصغار في المنازل، يتعين على الآباء الذين يعملون في المنازل العثور على طريقة لإدارة وقتهم للوفاء بأعباء الوظيفة وشغل أوقات أطفالهم. والمدارس المصرح لها بإعطاء دروس عبر «الإنترنت» وضعت أعباء إضافية على الآباء؛ الذين يتعين عليهم التأكد من أن أطفالهم الباقين في المنازل، متصلون بالجلسات التعليمية على أجهزة الكمبيوتر في أثناء اليوم الدراسي، وأنهم منتبهون لدراستهم وينجزون واجباتهم. وتعين على المعلمين أيضا تغيير مناهجهم في التدريس من الغرفة الدراسية إلى التعليم عن بُعد. وهذا يصح بشكل خاص على من يقومون بتعليم الأطفال الأصغر سنا؛ لأنه يتعين عليهم العثور على وسائل جديدة تقدم مساعدة ذات طابع فردي لمن يحتاجون إليها.
والمشكلات أكبر أمام الأطفال الذين ينتمون إلى أسر منخفضة الدخل ممن لا يمتلكون أجهزة كمبيوتر، أو حتى إمكانية الدخول إلى «الإنترنت»، أو الذين ليس آباؤهم في المنزل أو غير قادرين على المراقبة أو المساعدة في التعلم في المنزل.
وعلقت شركات الخطوط الجوية رحلاتها وقلّصت برامجها. وصناعة السياحة تترنح، ما أضر بالعديد من الاقتصادات. ولا توجد بارقة أمل في الأفق، فهذه الأزمة يتوقع أن تعصف بخطط قضاء عطلات الصيف لكثير من الناس. وفي معظم المدن، تضررت بشدة الأنشطة الاقتصادية الصغيرة بشكل خاص. والإغلاق والحجر دمّرا المطاعم ومتاجر بيع الأغذية والكتب والمتاجر الصغيرة التي تعتمد على الزبائن الذين يأتون إليها. صحيح أن الكونجرس أقر حزمة إنقاذ لمساعدة مثل هذه الأنشطة الاقتصادية، لكن كثيرا من هذه المشروعات الصغيرة لن تستطيع التعافي من الضرر الذي وقع بالفعل.
وكل هذه العواقب الآنية للوباء أثرت مباشرة على أصدقائي وأسرتي، فكل أبنائي وأبناء أصدقائي في المراحل التعليمية المختلفة أصبحوا يدرسون في المنزل. وقد تجمّد النشاط الاقتصادي الجديد الواعد لزوجة ابني الذي كانت قد بدأته قبل قليل. وبسبب الإغلاق المفروض، لم أرَ أحفادي منذ أسابيع، فيما عدا مكالمات الفيديو على «فيسبوك».
وهناك صعوبات شخصية أعمق تسببت في آلام شديدة؛ فقد نشرت صحيفتا «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» قصصا عن عدم قدرة الذين فقدوا ذويهم على حضور مراسم الدفن والجنازة. وهذا يصيبني في مقتل؛ لأن زوجتي إيلين انتقلت إلى رحمة الله قبل أسبوعين. فقد أصيبت بسكتة في نوفمبر (تشرين الثاني)، وعلى مدار الأشهر الأربعة الماضية أقامت في مركز للنقاهة وإعادة التأهيل. وكان من المقرر عودتها إلى المنزل يوم 13 مارس (آذار)، لكن في العاشر من الشهر تعرضت لسكتة أخرى قضت عليها، وكان فقدانها مريرا للغاية. وإغلاق جميع كنائس واشنطن لم يمكننا من تنظيم جنازة لها، مما وضع ملحا إضافيا على الجرح. وبسبب الخوف من العدوى، لم يتمكن أفراد عائلتي الكبيرة من الاجتماع في منزلنا. وفي البداية، اعتقدنا أنه قد يكون من الأسلم تأجيل الجنازة حتى نهاية أبريل (نيسان)، ثم فكرنا في نهاية مايو (أيار). ونظرا لمعدل انتشار العدوى، بقي كثير من خططنا معلقا. وهذا ما يعيدني للحديث من حيث بدأت، أي الشعور بالخوف من المجهول الذي نواجهه جراء فيروس قاسٍ لا نملك حتى الآن علاجه أو لقاحا للتحصن منه، فالأمر يبدو كما لو أننا نقف على حافة هاوية بلا قرار.
وقارن بعض المعلقين ما نعيشه بحالة حرب. فمثل الحرب، يجب حشد الموارد لمحاربة العدو ودعوة المواطنين لتقديم تضحيات. وسنتكبد تكاليف ونخسر أرواحا. الفارق الرئيسي هو أن العدو في هذه الحالة عالمي وغير مرئي وقد يصيب جارك أو ابنك. لقد عايش جيل والديّ وباء الجدري وحربين عالميتين والكساد العظيم. وعاش جيلي الحرب الباردة والخوف من الإبادة النووية وخطر الإرهاب. ويواجه أطفالي وأحفادي مشكلة إطلاق النار العشوائي والخطر الوشيك الذي يشكله تغير المناخ على الكوكب. لكن وباء «كورونا» على ما يبدو مختلف عن كل التهديدات السابقة والحالية لأمننا وسلامتنا.
وحتى الآن لا نعرف كيف ستنتهي هذه الحرب، فمدة احتواء هذا الوباء غير مؤكدة، وإذا استمر لعام ونصف عام آخر حتى يتم التوصل إلى لقاح وإنتاجه على نطاق واسع وتوزيعه، فمن غير الواضح كيف ستبدو حياتنا واقتصادنا ومؤسساتنا ومجتمعاتنا وعائلاتنا في هذه الفترة.
عن صحيفة "الاتحاد" الإماراتية