يُعد فيلم "كَفرناحوم" من الأفلام التي أثارت جدلاً في الأوساط العربية، اللبنانية تحديدًا، خاصة بعد فوزه بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان 2018، إضافة إلى ترشحه لعدة جوائز عالمية.
فقد عَد كثير من منتقديه فكرة تناول حياة الفقراء والمهمشين ومعاناتهم في لبنان المقترنة بعرضها في المهرجانات العالمية فكرة استهلاكية لاستجداء الجوائز واسترضاء الذائقة الغربية.
وبناء على أصحاب هذا الرأي فقد لجأت المخرجة اللبنانية نادين لبكي إلى اللعب على العواطف عبر تصوير قصة مؤلمة بشكل مبالغ فيه ومن خلال تناول الشخصيات التي تستثير الرأي العام مثل شخصية الطفل المشرّد "زين" –الذي قام بدوره الطفل السوري زين الرافعي- وشخصية "راحيل" الخادمة الإثيوبية التي تحمل من شاب لبناني يتخلّى عنها ويرفض الاعتراف بطفلهما "يوناس".
ومن خلال تسليط الضوء على اللغة اليومية التي تستعملها الطبقات المهمشة التي تعيش في قاع الحياة البائسة بما تحويه من قسوة وشتائم تنال كل من تسبب بوجودهم في هذا العالم.
من جهة أخرى يرى كثيرون أنّ الفيلم أوصل السينما اللبنانية إلى العالمية، وأنّ المخرجة لبكي استطاعت إعادة الاعتبار لهذه السينما. إضافة إلى القيمة الإنسانية للفيلم الذي انحاز للمهمشين والمطحونين في المجتمع اللبناني وعرض معاناتهم كما هي لا كما ترغب المجتمعات المخملية في تخيّلهم؛ فناقش الفيلم قضايا زواج القاصرات وتشرّد الأطفال وعالم المخدرات ومشاكل الخادمات والفئات التي تعيش بلا وثائق أو أوراق رسمية تثبت وجودها على الأرض.
وقبل أن ننتقل إلى المقابلة بين الرأيين سنحتاج أن نحرق قصة الفيلم:
يعيش الطفل زين في منطقة عشوائية حيث الفقر والجوع وغياب الوثائق الرسمية التي تثبت وجود الإنسان على وجه الأرض، ورغم الظروف الصعبة التي تعيشها الأسرة فإن الوالدين لا يتوقفان عن إنجاب الأطفال دون قدرة على توفير الحد الأدنى لأبسط مقومات الحياة الكريمة. فأفراد العائلة ينامون في غرفة واحدة متكومين على بعضهم، والأطفال لا يذهبون إلى المدرسة بل إلى العمل في الشارع، وحينما يكبر الأولاد قليلاً يتم توريطهم بالإتجار بالمخدرات والممنوعات. أما البنات فيتم تزويجهن بمجرد ظهور علامات البلوغ عليهن بهدف الإفادة من المهر وبطريقة تشبه البيع.
يفشل زين في تغيير واقعه؛ فلا يستطيع أن يقنع والده بإلحاقه بمركز تعليم خيري كي يتمكن من القراءة والكتابة، كما يفشل في إيقاف عملية بيع/ زواج أخته الطفلة "سحر". فيقرر الهرب من البيت ويدخل في متاهة تشرّد تنتهي بالعيش في سكن الخادمة الأثيوبية "راحيل" التي تحتاجه كي يبقى مع طفلها في الفترة التي تذهب بها إلى العمل. غير أنها تقع في قبضة الأمن بسبب عدم امتلاكها وثائق رسمية تخولها بالعمل في لبنان، وهنا يجد زين نفسه متورطًا بمسؤولية الطفل "يوناس" ليدخل في معاناة شاقة في سبيل تأمين أبسط احتياجاتهما حتى يستسلم ويبيع الطفل لأحد أفراد شبكة تزوير وثائق ومتاجرة بالبشر الذي يعده بإخراجه من لبنان.
ولكنه حينما يعود إلى البيت ليحضر أي وثيقة تثبت وجوده على الأرض سيصطدم بحقيقة أن أهله لا يحتفظون بأي وثيقة تثبت وجودهم باستثناء وثيقة شهادة وفاة أخته التي توفيت بسبب عدم مقدرتها على تحمّل مشاق الحمل والولادة.
هنا سيقوم زين بطعن زوج أخته معتبرًا اياه مسؤولا عن قتل أخته وسيتسبب له بعاهة دائمة (الشلل) وسيدخل السجن ليقضي عقوبة مدتها خمس سنوات.
وأثناء فترة السجن سيقرر زين محاكمة والديه لأنهما أتيا به إلى هذه الحياة البائسة دون أن يوفرا له أبسط مقومات الحياة الكريمة وسينجح في تحريك الرأي العام وستتطوع إحدى المحاميات للمرافعة عنه.
لقد جرت العادة في الأفلام التي تتناول حياة العشوائيات والمناطق المعدمة أن تخضع هذه الحياة لشيء من التجميل والمكياج؛ إذ يتم تقديم الحوار وطريقة الكلام طبقًا لما تسمح به الرقابة المجتمعية وللصورة التي ترغب هذه الرقابة برؤيتها. لكن نادين لبكي اختارت أن تقدم هذه الفئة كما هي في الواقع لا كما نرغب في رؤيتها، فقدمت الحوار اليومي لهذه الشخصيات مليئًا بالشتائم واللغة القاسية المستوحاة من قسوة حياتهم ومرارتها.
وإن كانت عرضت بالتفصيل لمأساة الطفل فأنها أثناء جلسات المحاكمة أعطت الوالدين فرصة الدفاع عن نفسيهما وبيان الظروف القاسية التي أجبرتهم على هذه الحياة. وكأن لبكي تدين المجتمع نفسه أكثر من إدانتها للوالدين، لذلك سينتهي الفيلم دون أن ينطق القاضي بالحكم؛ لأن الهدف من الفيلم عرض معاناة المهمشين لا إطلاق أحكام قيمة تضع في قفص الاتهام أشخاصًا أنتجتهم الظروف الاجتماعية غير العادلة.
لقد اختارت المخرجة الأطفال الذي شاركوا في الفيلم من البيئة نفسها التي يتناولها الفيلم؛ فهم أطفال فقراء ومشردون ولاجئون. وذلك كي يكون التمثيل أكثر مصداقية وعفوية، وينطبق هذا الأمر على بطل الفيلم الطفل السوري زين الرافعي الذي يقف أمام الكاميرا لأول مرة في هذا الفيلم. لكن وعلى الرغم من إتقان الطفل لدوره فإنه بدا أصغر سنا من عمر الشخصية التي تحتاج إلى طفل أكبر بعامين أو ثلاثة كي يقنعنا بقدرته على الطعن بطريقة مؤذية تؤدي إلى إحداث عاهة دائمة.
ويبقى السؤال حول الفائدة التي يجنيها مثل هؤلاء الأطفال من المشاركة في هذه الأفلام مشرعًا؛ خاصة أنها لن تقدم لهم حلولاً عملية لمشاكلهم سوى أنها تنقل مأساتهم إلى العلن فترة وجيزة ثم يعودون غالبًا إلى الحياة البائسة. وأمامنا أمثلة لأفلام عالمية سبقت "كفرناحوم" في تجربتها مثل الفيلم البرازيلي "بيشوت" -1981- الذي قام ببطولته طفل متشرّد، ثم عاد إلى حياته ليقتل بعد سنوات على يد الشرطة أثناء مطاردتهم له!