بالاتفاقين اللذَيْن أبرمتهما مع
حكومة الوفاق الوطني في
ليبيا، ثم الإعلان عن بدء
إرسال عسكرييها إلى الأراضي الليبية على شكل شخصيات للقيادة والتوجيه والتنسيق، ثم بالدعوة المشتركة لوقف إطلاق النار مع موسكو والمسار التعاوني معها، فرضت
تركيا نفسها لاعبا رئيسا في الملف الليبي بعد أن كانت بعيدة عنه إلى حد كبير.
تبعاً لذلك، أصبحت أنقرة احد الأطراف الرئيسة المدعوة إلى مؤتمر برلين، والذي تحدَّدَ موعدُه في نفس يوم المباحثات الليبية- الليبية برعاية روسية ومشاركة تركية، وقد حرصت أنقرة على الحضور والمشاركة الفاعلة فيه، حيث قاد أردوغان وفد بلاده إلى العاصمة الألمانية.
الهدف التركي المعلن من الانخراط في الأزمة الليبية هو دعم حكومة الوفاق لإضفاء شيء من التوازن الميداني، بما يمكن أن يسهل الحوار وبالتالي الحل السياسي. كما أنه من المفهوم ضمناً أن تركيا تسعى بكل ثقلها لمنع سقوط طرابلس بيد
حفتر وبالتالي إسقاط حكومة السراج، بما قد يعني إلغاء مذكرة التفاهم بخصوص الحدود، وهو ما ستكون له انعكاساته السلبية على حقوقها في غاز شرق المتوسط وأمن الطاقة الخاص بها، لا سيما بعد أن تكتل عدد من الدول المنافسة و/أو الخصمة لها في منتدى غاز شرق المتوسط الذي استثناها وتجاهل حقوقها تماماً.
والسؤال الآن: إلى أي مدى كانت مخرجات مؤتمر برلين مُرضية بالنسبة لتركيا ومحققة للأهداف التي سعت لها؟
البيان الختامي للمؤتمر ركز على الحل السياسي في ليبيا، وأكد على ضرورة تثبيت وقف إطلاق النار، وهي سياقات متناغمة تماما مع ما تريده أنقرة. فذلك مما يعزز شرعية حكومة الوفاق أولا، ويثبتها في طرابلس على أقل تقدير ثانيا، ويفتح المجال أمام حل سياسي مستقبلاً، من جهة ثالثة.
بالنظر لهذه البنود الرئيسة، يمكن القول بأن المؤتمر قد حقق الحد الأدنى المقبول تركياً بالنسبة للأزمة الليبية في الوقت الراهن، خصوصاً وأن أنقرة لا تريد الانجرار لصراع داخلي قد يستنزفها في جغرافيا تختلف كثيراً عن سوريا التي نفذت فيها ثلاث عمليات عسكرية حتى الآن.
لكن ذلك لا يعني أن مخرجات المؤتمر أتت تماماً وفق ما تريده أنقرة أو أنها تدعم
مساعيها في ليبيا. فالمؤتمر قد عقد بشكل أساسي لإعادة الملف الليبي
للوصاية الأوروبية قدر الإمكان، وسحب البساط من الثنائي الروسي- التركي، ومحاولة منع تركيا من إرسال قواتها لليبيا لدعم حكومة الوفاق، ولعل ذلك مما يفسر سرعة الإعلان عن موعد المؤتمر بعد أن كان مجرد عقده، فضلاً عن توقيته، في علم الغيب لمدة طويلة.
أكثر من ذلك، فقد ساوى المؤتمر بين الطرفين المحليَّين بشكل كامل ووصَّفَ التطورات في ليبيا "صراعا داخلياً بين طرفين"، بينما هما في الأصل حكومة معترف بها دولياً وطرف معتد عليها، وهو ما يخالف أصل المشكلة ويتناقض مع المقاربة التركية. كما أن البيان الختامي للمؤتمر، وإن أكد على ضرورة تثبيت وقف إطلاق النار، لم يتضمن مطالبة صريحة من حفتر بالعودة إلى حدود ما قبل هجومه الأخير على طرابلس، وهو ما يعني ضمناً أنه يضفي شيئا من الشرعية على هجومه وخطواته السابقة، بينما يطالبه فقط بـ"هدنة" حالية مع "الطرف الآخر" للتوصل لحل سياسي بينهما.
الأهم هو أن البنود التي تتحدث عن وقف التدخل الخارجي وإرسال السلاح والمقاتلين، وكذلك عن المليشيات والمنظمات الإرهابية،
جاءت في معظمها عامة فضفاضة كما كان متوقعاً، وهو ما يمكن لكل طرف أن يفسره كما يشاء. وبالنظر إلى أن معظم الدول المنخرطة في الأزمة الليبية ليست على وفاق مع أنقرة، فمن المنتظر أن تفسر هذه البنود بشكل شبه حصري ضد تركيا من قبل هذه الأطراف، بحيث يصبح دعمها هو التدخل ومن ترسلهم هم المرتزقة، وأي موقف منها هو ما يهدد السلم والاستقرار والمسار السياسي في ليبيا، رغم أنها آخر المتدخلين في الأزمة عموماً.
أخيراً، فالبيان الختامي الذي يؤكد على ضرورة التزام الأطراف الخارجية بعدم التدخل ودعم أي من الطرفين المحليَّيْن المتواجهَيْن سيكون عائقاً أمام أي موقف تركي مستقبلي لإرسال قوات إلى ليبيا في حال احتاجت لذلك. صحيح أن ذلك البند يشترط لذلك استمرار وقف إطلاق النار ما يعني أن
خرقه من قبل حفتر سيكون مسوغا للتدخل التركي، إلا أن الأخير لن يكون سهلا أبدا وسيجر على أنقرة الكثير من الانتقادات والضغوط في ظل حالة الاستقطاب القائمة وتوازن القوى المعروف.
يبقى مصدر قلق أخير بالنسبة لتركيا، وهو أن يكون المؤتمر خطوة أولى على طريق مسار سياسي ينزع الشرعية بشكل تدريجي عن حكومة الوفاق، فيحولها اليوم إلى أحد أطراف المعادلة (وليس الحكومة المعترف بها دوليا)، ثم يجعلها لاحقا جزءا من المنظومة الحكومية فقط، قبل أن يخرجها تماماً من المشهد - إن أمكن - من خلال تشكيل جديد تشرف عليه الدول والأطراف المشاركة في مؤتمر برلين وما سيتبعه، والتي يقف معظمها في المعسكر المقابل لأنقرة.
في المحصلة، يبدو ظاهرياً وحتى اللحظة أن مؤتمر برلين قد حقق لتركيا الجزء الأهم من أهدافها المعلنة من الانخراط مؤخراً في الأزمة الليبية، لكن بحثاً أعمق في البنود والصياغات والاصطلاحات، فضلا عن التعقيدات الميدانية والمواقف الإقليمية والدولية والسيناريوهات المحتملة، يشير إلى مصادر قلق حقيقية لتركيا في المسار المستقبلي للأزمة والدور الذي تريد لعبه فيها.