أستطيع أن أجزم وأنا مرتاح الضمير أن «المشير» السيسي يتربع على عرش الثورة المضادة في مصر بلا منازع، ولحسن الحظ لم تمتد مهمته أو وظيفته لأبعد من مصر، وصحيح كان لمصر ثقل سكاني واستراتيجي وثقافي كبير وذلك غاب في واقع البؤس الحالي، وتقهقر التأثير على الساحتين العربية والعالمية. وها هي الذكرى التاسعة لثورة 2011 تحل بعد أسبوع من الآن (18/ 01/ 2020)، ومصر في غيبوبة لا يبدو أنها ستفيق منها في المدى المنظور. وهذا تؤكده نظرة سريعة على دوائر حركة «المشير» وعلاقاته، فمجرد رصدها ولو من على السطح يوفر أدلة وبراهين كافية لإصدار حكم بات؛ لا نقض فيه ولا إبرام.
فحميمية ارتباط «المشير» بـ«بنيامين نتنياهو» رئيس وزراء الدولة الصهيونية الاستيطانية، وحرصه على لقاء «دونالد ترامب»؛ ممثل الحركة الصهيونية في البيت الأبيض، و«إيمانويل ماكرون»؛ طفل المؤسسات المالية العملاقة؛ ذات الأنياب والمخالب، ومندوبها في قصر الرئاسة الفرنسية (الأليزيه)،وكل منهم يعمل في دوائر تتسع لتخترق كل شيء في العالم تقريبا، واخترقت بالفعل «القارة العربية» والعالم الإسلامي، وهي دوائر تُقَدِّم المصالح الصهيونية الاستيطانية على مصالح العالم بسكانه ومواطنيه وشعوبه، ومجرد الارتباط بهؤلاء يكفي للتأكد من الوقوع في فخ أصحاب هذه المصالح، وكلهم يضعون الأولويات الصهيونية في صدارة مهامهم الوظيفية والسياسية.
وثورة يناير 2011؛ حاصرتها قوى الثورة المضادة بإحكام، وهي قوى لا علاقة لها بمبدأ أو حق، وتستخدم كل إمكانياتها؛ من سلاح ومال ونفوذ في بث الفتن والفُرقة والتآمر، والتحريض على العنف والفوضى، وإلصاق ذلك بالثوار والثورة وقواها الوطنية العريضة، واستأسدت على شباب أعزل، وأعملت فيهم ملاحقة وتنكيلا واعتقالا، وجندت عناصرها وأبواقها للترغيب والترهيب والاختراق، واعتمدت تزييف الحقائق وحجبها عن الناس، الذين أعطوا الثورة ما لم يكن متوقعا من جهود وإمكانيات؛ وصلت حد التضحية بالنفس، ووَصَمَت الملايين التي تجمعت بميدان التحرير وميادين وشوارع العواصم والمدن في أنحاء البلاد من أقصاها إلى أقصاها؛ وَصَمَتها بكل الرذائل والموبقات.
وباعتبارها ثورة تاريخية؛ تعبر عن أحلام وطموحات الغالبية العظمى من الشعب فهي عصية على الكسر؛ مثل طائر «الفينيق» الأسطوري بحياواته (جمع حياة) المتجددة، فيعود مرة ومرات، وعندما تكون الثورة المضادة غاشمة وجاهلة، ومتجردة من القيم الإنسانية والاجتماعية، فالبطش والإجراءات البوليسية هي الأيسر، ولم تتعلم غيرها؛ بلطجة وعنف و«تأديب وانتقام وتضييق»، ضد شباب؛ أُجْهِضت ثورته، بنُبلها وسموها، وثورات من ذلك النوع لا تقل نبلا عن المقاومة المتصدية للعنصرية والاحتلال والاستعمار والظلم والعدوان. وفوجئ «المشير» وطبقته بيوم «الخروج» في 20 أيلول/سبتمبر الماضي (2019) في عدد من المحافظات على اتساع جمهورية مصر العربية، فارتعدت الأوصال والمفاصل، وما زالت بعد أربعة أشهر من هذا «الخروج» غير مطمئنة ومرتبكة.
وفي هذا الشهر يحتفل الثوار وأنصارهم ومؤيدوهم أينما كانوا؛ في سجن ومعتقل أو معزل طوعي أو قسري؛ كل على طريقته، يُقسم بالولاء والوفاء للأمة والوطن والشعب، ويتحدى كل غرور غاشم، وبطش متجاوز للحدود، وإحساس زائف بالبطولة، وتوهم بتصفية الحساب مع الثورة، وتتواتر المعلومات، وتَتَكشَّف الحقائق تباعا؛ لدحض الادعاءات الرئاسية، ونفي التصريحات الرسمية عن تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي، فيعلن وزير الطاقة الصهيوني «يوفال شتاينيتز» الحقيقة، وهو يدشن بدء تدفق الغاز الصهيوني «المسروق» لمصر، ويصف وهو في غاية الفرح اللحظة يوم الأربعاء الماضي (15/ 01/ 2020) بـ«التاريخية»، ويصرح: «أنا ووزير الطاقة المصري أعلنا هذا الصباح عن بدء تدفق الغاز الطبيعي من (إسرائيل) إلى مصر. هذه لحظة جليلة تصبح فيها (إسرائيل) قوة إقليمية عظمى في مجال الطاقة، وهذا تطور مهم يخدم المصالح الاقتصادية للبلدين، ويساهم بشكل كبير في تعزيز وتقوية علاقات السلام في الشرق الأوسط»، يضاف إلى ذلك كذبة استيراد الغاز الصهيوني لإسالته وإعادة تصديره، بينما نجد أن بيان الحكومة الصهيونية على موقعها الرسمي باللغة العربية يقول، «إنه مخصص للاستخدام في السوق المحلي المصري»، والإسالة تكلف دولارين للمليون وحدة تضاف لسعر الشراء البالغ 6 دولارات، فيصبح السعر الإجمالي 8 دولارات للمليون وحدة، وسعرها في سوق روتردام 2.30 دولار!!
وهذا في وقت ينشغل فيه «المشير» بمتابعة أعمال المقاولات، وبناء قصور ومنتجعات «المترفين» من رجال المال والأعمال والرئاسة، ورجال الحكم، وحملة الرتب العسكرية والشرطية العليا، وهم يعيشون في «عالم خاص» من الفخامة والأبهة؛ في الملبس والزينة والمجوهرات، والمقتنيات والعطور وأغلى الملابس، وهم على خطى مَثلهم وقدوتهم أنور السادات، الذي أغرقه الإعلام الصهيو غربي في أضواء المشاهير ونجوم السينما والغناء، وسخرت منه «غولدا مائير» رئيسة وزراء الدولة الصهيونية، حين سمعت بخبر منحه مناصفة بينه وبين مناحم بيغن «جائزة نوبل» للسلام، فعلقت ساخرة «إنه جدير بـ«جائزة الأوسكار»، باعتباره عاشقا للأضواء والنجومية، وحين وضعت مجلة «تايم» الأمريكية صورته منفردا على غلافها كشخصية العام (1978) أُعتُبر ذلك فتحا مبينا، وانفرجت أساريره حين اختارته مجلة أزياء كواحد من العشرة الأكثر أناقة (شياكة) في العالم.
أما «المشير» فشغله الشاغل الحصول على المال والاقتراض، وتركيزه على مشروعات تبدو معدة خصيصا لتبديد الأصول العامة للدولة وإفلاسها. وقد سبق ومرت بتجربة شديدة الوطأة في القرن التاسع عشر انتهت بعزل الخديوي إسماعيل، واستقواء ابنه الخديوي محمد توفيق بالقوات البريطانية، التي «لبت» طلبه واستمر احتلالها لمصر 74 عاما، هل هناك ضرورة ومصر على حالها الراهن، وأبناؤها «فقرا قوي» بناء عاصمة جديدة تكلفت حتى الآن نحو 50 مليار دولار، وإجمالي تكلفتها النهائية 300 مليار دولار؟ ولماذا الرهان على غابات الأسمنت المسلح؟، وهل أعمال المقاولات وحياة الترف ومظاهر البذخ تصلح لإدارة الحكم وبناء الدول.
ليس هناك من ينبه «المشير» إلى قيمة ومكانة البلد الذي يحكمه ودوره كنموذج؛ كان رائدا في «القارة العربية»، وكانت عاصمته منارة للثقافة والدين والعلوم والآداب والفنون والسينما والمسرح، وليس بين مساعديه وحواريه من يجرؤ على لفت نظره لعراقته ومكانته كحاضن لقوى التحرر العربي والإفرو آسيوي واللاتيني والعالمي، واستمد وزنه الإقليمي والدولي البارز من ذلك الدور، الذي تم تجييره لصالح الصهيونية العالمية، وروافدها العنصرية والطائفية والعشائرية، وضاع الرصيد ولا تبدو له عودة قريبة، مع أن: «دوام الحال من المحال»، كما يقول المثل العامي، وغياب النموذج والدور وضياع الرصيد من أهم أسباب نكسة مصر في سنواتها الخمس الماضيات؛ لا سياسة ولا علم أو ثقافة أو معرفة؛ ضاعت تيران وصنافير وها هو النيل مهدد بالجفاف، والغاز نشتريه من الدولة الصهيونية للاستهلاك الداخلي بأضعاف سعره العالمي!!
ومأساة هذه المرحلة هي في الاعتماد على الجهالة والوعيد، وتدبيج الدعايات الصفراء والسوداء، وكل ذلك وغيره أدى إلى إرساء أسوأ سياسة بوليسية شهدتها مصر في تاريخها، وأتذكر أن صحيفة الإندبندنت البريطانية نشرت تقريرا عام 2010؛ أي قُبَيل ثورة يناير بشهور، أشارت فيه إلى العدد الإجمالي لقوات الشرطة ورجال الأمن في الصين، وقُدِّر بمليون ونصف مليون رجل أمن وشرطي، أما عددها في مص تجاوز الرقم الصيني، وكان تعداد الصين وقتها مليار وثلاثمئة مليون نسمة، بينما كان سكان مصر ثمانين مليون نسمة.
وتعمل السلطات على تجنب حدوث ما حدث في يناير 2011، فقامت بإغلاق مقاهي وسط العاصمة والمناطق المحيطة والملاصقة لميدان التحرير (ميدان الثورة)؛ بحجة المخالفات وعدم وجود تراخيص لها، وتمارس أقصى وأقسى الضغوط على قلب القاهرة، الذي كان نابضا بالحيوية والنشاط، وطبع مقاهيه بطابع ثقافي وأدبي وفني وسياسي، وما زال الخوف والسكون يغلف محيط هذه المقاهي، الواقعة تحت رقابة وقيود أمنية صارمة، وحملات متكررة وإغلاق شبه دائم لمكتبات ودور نشر ومنتديات منطقة حية في قلب قاهرة المعز، والأسباب هي «الدواعي الأمنية»، وهذا ما يصرح به أصحاب هذه المحلات والمقاهي.