خارج النّص
لا يمكن الحديث عن رواية "الكابوس" للروائي الأردني أمين شنّار دون ربطها بعمل أدبي آخر هو رواية "أنت منذ اليوم" للكاتب تيسير السبول، وهو ربط يستند إلى نقطتين رئيستين: الأولى هي فوز العملين بجائزة صحيفة النهار اللبنانية مناصفةً عام 1968م، أما الثانية فهي توقف كلا الكاتبين عن الكتابة الأدبية مطلع السبعينيات.
تيسير السبول توقف بانتحاره احتجاجًا على توقّف القوّات العربية في حرب تشرين، وأمين شنّار توقف عن الكتابة باختياره العزلةَ بعد فصله من مؤسسة الإذاعة والتلفزيون عام 1971م والعزلة انتحار معنوي؛ الأمر الذي عبّر عنه محمود درويش في معرض حديثه عن الكاتب حينما قال عنه: "موهبة انتحرت قبل الأوان". وهنا يطفو أمامنا على السطح سؤال مُلح: لماذا تقدمت رواية "أنت منذ اليوم" بينما انزوت رواية "الكابوس" لتحتفظ بقيمتها التاريخية كعمل تأسيسي؟
سنحاول الإجابة عن هذا السؤال على شكل نقاط في محاولة لوضع العمل الأدبي ضمن السياقات الخارجية المؤثرة –التي أدت إلى شهرته أو خفوته- في تحديد مصيره يساعد القارئ على فهمه وتحديد قيمته:
أولاً: حينما يموت كاتب معروف فإنّ جمهور القرّاء والأصدقاء سيأخذ بإعادة تأويل حياة الكاتب وكتبه بما يتناسق مع مستجدات موته؛ إذ سيبدأ الحفر في سيرة الراحل وكتبه ودوافعه للموت، إن مات منتحراً، وقدرته على التنبؤ بالموت، إن كان موته طبيعيا. وسيحاولون إعادة قراءة كتبه، معيدين لها الاعتبار، وفق معطيات النظرة الجديدة.
وهذه الحالة حاضرة بقوة في الساحة الثقافية الأردنية؛ فكثير من المثقفين أعيد لهم الاعتبار بعد موتهم أو اقترابهم منه، منهم: الكاتب الساخر محمد طمليه الذي مات بالسرطان، وغالب هلسا المنفي الذي لم يُعرف أردنيا إلا بعد وفاته، وأيضاً تيسير السبول الذي مضى على انتحاره ستة وأربعون عامًا.
أما في حالة أمين شنّار –على الرغم من انتحاره المعنوي كما أشرنا- فظل هناك دائمًا حاجز يمنع إعادة تأويل مشروعه الكتابي، ألا وهو بقاء الكاتب على قيد الحياة طيلة هذه الفترة التي امتدت من بداية السبعينيات حتى منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. إنّ القدرة على إعادة التأويل تحتاج إلى الخيال؛ أي أنّ أصدقاء الكاتب من الكتّاب والنقّاد والمثقفين يحتاجون إلى إعادة تخيّل علاقتهم به وإنتاج ذلك في سياق سردي متين، الأمر الذي يضفي الطابع الأسطوري على هذه العلاقة؛ فتصبح عبارة "صباح الخير" ذات مغزى ودلالة في سياقها التأويلي كأن توضع في سياق التواضع والأدب الجم على سبيل المثال.
إنّ هذا الأمر له محظوراته في حالة كاتبنا لأنّ بقاءه على قيد الحياة يعني احتمالية خروجه عن صمته في أي وقت، مما سيؤدي إلى كسر الطابع الأسطوري وفشل أي خيال تأويلي من شأنه تضخيم صورة الكاتب.
ثانيًا: إنّ التقاطع الزمني بين الجائزة والظروف المشحونة بالإحباط والخذلان بعد هزيمة حزيران يفسّر الطبيعة السياسية لكلا العملين. بيد أنّ رواية "أنت منذ اليوم" اتجهت إلى المكاشفة والخروج من قيد الحبكة ضمن شروط الرواية الحديثة إلى فضاء الرواية الجديدة وذلك عبر تقديم حبكة مفتتة، الأمر الذي شكّل إسهامًا تاريخيًا في تطوّر الرواية العربية.
عكس ذلك ما حصل في "الكابوس" إذ حاول الكاتب التحصّن بالقيد الفني وغلّف الحكاية بإطار رمزي، ولكن هذه الرمزية سقطت في المباشرة، وهذا أمر طبيعي يحصل لكاتب يحاول استخدام الرمزية في الحديث عن القضية الفلسطينية في أوج الهزيمة العربية على عتبات حزيران. فجاءت مكاشفة السبول أكثر قبولاً وتماشيًا مع تحوّلات الرواية العربية من رمزية أمين شنّار المتأخرة عن ميعادها.
ثالثا: لقد كان السبول ينتمي إلى اليسار العربي الذي خرج من تحت رايته أشهر كتّاب الوطن العربي من روائيين وشعراء ونقّاد، والذي امتلك ماكنته الإعلامية القادرة على صناعة المثقف والترويج له بقدر ينافس الماكنة الإعلامية للأنظمة العربية بل يتفوّق عليها. إذ ارتبط مثقف السلطة بصورة مشوهة في ذهن المتلقي مقارنة بالصورة الطهرانية التي تضفيها المعارضة على مثقفيها. بينما انتمى شنّار إلى حزب التحرير الإسلامي صاحب الماكنة الإعلامية المحدودة والعاجزة عن الترويج لمثقفيه، عدا عن إهماله –وربما تسخيفه- لقيمة الأدب في المواجهة؛ لذلك نجد كثيرًا من منتسبيه يجهل وجود روائي اسمه أمين شنّار.
رمزية متأخرة
تبدأ القصة في "الكابوس" حينما يتسلّم الشاب المتعلّم فرحات من والدته أمانه تركها له جده، وهي مجموعة أوراق كانت محفوظة في صندوق حديدي يكسوه الصدأ، إذ إنّ الجد أبا محمود كان الرجل الأول الذي يقرأ ويكتب في القرية، وخروج الأوراق المكتوبة من الصندوق الصدئ يشير إلى دور العلم في مواجهة الجهل المقترن بالصدأ. هذه الأوراق تتحدّث عن الطبقية والظلم في مجتمع القرية الذي يرمز إلى المجتمع الفلسطيني حيث القرية بسكانها الفقراء الذين يعملون في حقول القمح الصغيرة وبالكاد يحصلون قوتهم، في مقابل الإقطاع الذي يمثله الشيخ الكبير الذي يقطن الجبل (جبل البخور) والذي يملك الحقول الشاسعة يعمل بها أهل القرية مجانًا مرغمين على ذلك في سياق يقدم على أنه عرفان بالجميل.
الشيخ الكبير هو رمز السلطة، وهي سلطة متفاوتة الشرعية؛ فنجد الشيخ (نجم) يمثّل السلطة الشرعية التي يحن لها الناس ويتحسرون على أيامه. والجد لم يدرك الشيخ نجم في عهد قوته بل عاش شمسه الغاربة حين أصابه الخرف والهذيان، وكأن شنّار يرمز بالشيخ (نجم) إلى الضعف الذي أدرك الخلافة الإسلامية في أواخر أيامها. أما الشيخ الذي حل مكانه فهو غير معروف الأصل (يجهلون اسمه ومن أين أتى وكيف وصل إلى السلطة) في إشارة إلى طبيعة السلطة التي حلّت بدلا من السلطة السابقة. وهو موقف شبيه بخطاب حزب التحرير الإسلامي من السلطة العربية.
هذه السلطة الجديدة التي تكتسب شرعيتها في نظر أهل القرية تمارس عليها أقسى أشكال القمع، لذلك يلجأ أهل القرية إلى الصمت و يلجأ الآباء إلى قمع أسئلة الأطفال حول الشيخ، خوفا من أن يلقوا مصيرا مروعا. وهنا يحضر الخفراء الذين يقومون بمهمة التجسس على الأهالي وقمعهم. في المقابل تقدم لهم السلطة بعض الخدمات؛ فقد افتتحت لهم مدرسة يعلم فيها الفقيه الذي يشيع بينهم أن الشيخ لا يموت.
تكمن مهمة الحفيد فرحات إنقاذ البيت الكبير وأهل القرية من الخواجات الذين غزوا القرية وسيطروا على الشيخ الكبير حتى غيبوه نهائيا عن المشهد. وقد بدأ هذا الغزو بقدوم الخواجة موسى البائع الجوّال، وهو شخص لا يتكسّب من بضاعته بقدر ما يتخذها حجة للتجوّل في القرية والتردد على البيت الكبير، ثم يتكاثر الخواجات في القرية ويتقلدون الخفارة فيها. وذلك في إشارة إلى الهجرة اليهودية إلى فلسطين ونفوذهم فيها ترقبا لإقامة الدولة الصهيونية. وكان الخواجة يتهدد أهل القرية بالذبح كلما استفزه أحد.
سيتهم الجد بالجنون لأن أحدا لم يصدقه فكتب هذه الأوراق، وبين الجد والحفيد هناك الأب الذي تعاون مع الخواجات وأحبهم، غير أنهم تخلصوا منه حينما اطلع على خفاياهم ومخططاتهم. فيقرر الحفيد الثأر لأبيه وجده. أيضًا تتناول الرواية الصراعات داخل القرية التي تمثّل صراعات المجتمع الفلسطيني قبل الاحتلال؛ فهناك الصراع التقليدي –في زمن الجد- بين شيخ الجامع الذي لا يرى خلف الجبل سوى أمم متوحشة تحتاج إلى الهداية و فقيه المدرسة الذي يرى القرية متخلفة عن اللحاق بركب العالم المتحضّر، وتاجر القرية الذي يحرّض الأهالي ويحاول أن يوجههم حسب مصالحه.
وحينما يطرح البطل –الحفيد- خيارات المقاومة يظهر الصراع جليًا بين الأطراف الرئيسة: المعلّم علي سعد الدين يرمز للطبقة المتعلّمة التي تحمل حملة شعواء على الجهل، وعصام فاخوري التاجر الذي يمثّل الطبقة الوسطى، وعوده حمدالله الفلّاح الخمسيني الذي يمثّل الفئة البسيطة في المجتمع والتي تستمد قوتها من إيمانها الشعبي. ويشير إلى عبثية الصراع الذي يدور بين هذه الفئات.
من خلال مسيرة البطل (فرحات) في المواجهة مع الخواجات والخفراء، في سبيل تحرير البيت الكبير من الغرباء، يكشف الكاتب عن ثنائية البطولة والخيانة من خلال التحوّلات والظروف التي يوضع فيها (فرحات) وتضطره إلى التراوح بين خدمة الوطن وخدمة العدو. فهو يبدأ مناضلاً ليقع في يد العدو، فيتم تعذيبه ومن ثم تجنيده كخفير على أبناء قريته. وحينما يلاحظون عليه عدم ولائه لهم يهددونه ثم يحاولون توريطه بإغرائه بالمال والنساء، لدسه بين أهالي القرية كبطل هارب من يد الخفراء بعد أن تمرّد عليهم، فيقود الأهالي إلى الثورة ضدهم عبر إعلان موت الشيخ الكبير بينهم.
الهدف من ذلك التسريع في الصدام بين الغرباء وأهل القرية، ومن ثم يتمكن الغرباء من هدم الجبل وفتح الأرض للمهاجرين بعد ذبح أهل القرية. وعلى الرغم من أنّ فرحات يحاول دفع الأحداث باتجاه يخالف طموحات كبير الخفراء فإنه يفشل في ذلك.
يحاول الكاتب إخفاء الخطاب الأيديولوجي عبر اللجوء إلى تقنية المزج بين الواقع والأحلام في الخاتمة. غير أنّ الرمزية المباشرة المتقاطعة مع أجواء هزيمة حزيران جعلت من هذا الخطاب محاولة خجولة لإعادة سرد ما حدث بصورة موجزة، في الوقت الذي كان فيه الجميع على تماس مع الحدث ولا يحتاج أحد هذه الرمزية مثلما حاجته للتفاصيل ولإسقاط الضوء على واقع الإنسان ومعاناته دون اللجوء إلى رمزية لا وقت لها. غير أنّ الرواية تحتفظ بقيمتها التاريخية في الأدب الأردني لتذكرنا بروائي دفعه القمع والخوف إلى اعتزال الحياة الأدبية، ولو قُيّض له الاستمرار لربما استطاع أن يحدث فارقًا في مسيرة الأدب الإسلامي.