يشكو فنانون وأدباء كثيرون من نكد العيش وضيق الحال، حتى صار مألوفا ألا يرتزق المبدع من إبداعه، وصار المبدعون القادرون على العيش من بيع رواياتهم، أو لوحاتهم، محل حسد من الجميع؛ خاصة إذا بلغوا بحبوحة من العيش.
لكنّ فنانا إيطاليا محظوظا حقق ذلك الحلم، بالغا به مدى مذهلا من النجاح، الذي قد يثير من الغيظ والحسد أكثر مما يثير من الإعجاب والتقدير.
إنه ماوريتسيو كاتيلان. أثار ضجة عالمية بعد بيع نسختين من عمله المسمى "كوميديان"، المكون من موزة عادية ملصوقة على الحائط بشريط لاصق. وبلغ ثمنها 120 ألف دولار أمريكي لكل نسخة. بيعت نسخة من العمل في معرض "آرت بازل" في ميامي بيتش بفلوريدا، والأخرى في معرض بيروتين بباريس.
يجتهد إيمانويل بيروتين مؤسس المعرض في تبرير سعر موزة كاتيلان قائلا، إن الموز رمز للتجارة العالمية والفكاهة. بيروتين ذاته كان من ضحايا لعب صديقه كاتيلان، ففي معرض قديم له، سنة 1995، جعله كاتيلان يرتدي زي أرنب في المعرض الذي أشرف على تنظيمه.
لكاتيلان تاريخ طويل مع اللعب العابث بالفن؛ فهو صاحب عمل شهير اسمه "أمريكا"، عبارة عن مرحاض من الذهب، عيار 18، ذي توصيلات كاملة، يستطيع زوار المعرض استخدامه أيضا. قُدر ثمنه بما بين خمسة ملايين وستة ملايين دولار أمريكي. وكما له تاريخ مع اللعب، له تاريخ مع إثارة الضجة حول أعماله؛ فقد أثارت سرقة المرحاض الذهبي ضجة تزيد عن ضجة عرض العمل ذاته، وتسربت أخبار عن اتفاق كاتيلان مع المعرض على سرقة العمل، ونفاها كاتيلان.
كان مرحاضه الذهبي قد عرض أولا في متحف جوجنهايم بنيويورك خلال عامي 1916 و1917، حيث استخدمه حوالي مائة ألف زائر في قضاء حاجتهم. ثم عُرض في قصر بلينهايم بإنجلترا، وهو قصر تاريخي يعود إلى القرن الثامن عشر، مدرج ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، وُلِد فيه تشرشل.
وقد يبدو أمرا دالّا أن يُعرض مرحاض كاتيلان في غرفة مجاورة للغرفة التي ولد فيها تشرشل.
تذكر بعض المواقع الأجنبية وقائع قديمة لكاتيلان اتُهِم فيها بسرقة أعمال فنية، منها اقتحامه معرضا في أمستردام، لسرقة محتويات معرض لقطع منحوتة، ثم عرضها في معرض له، كما لو كانت قطعه الخاصة.
بعد بيع نسختي "كوميديان" لرجل وامرأة فرنسيين، اتفق كاتيلان مع صاحب معرضه على رفع سعر النسخة الثالثة منها إلى 150 ألف دولار. ظل كاتيلان يفكر في كيفية تقديم الموزة والمعدن الذي ينحتها منه، ثم قرر أخيرا أن يشتري واحدة من السوبر ماركت ويعرضها. ها هي النتيجة: مبلغ إجمالي يمكن دفعه ثمنا لمزرعة موز كاملة في كثير من دول العالم الثالث.
يستمر اللعب الذي يحرض عليه كاتيلان، فقد فاجأ داتونا، وهو فنان أمريكي من أصل جورجي، زوار الموزة في جاليري بيروتين، بنزعها عن الحائط والتهامها أمام حشد من المتفرجين، زاعما أن ما قام به عمل فني بعنوان "فنان جائع"، معلنا أنه يحب أعمال كاتيلان. وقد صرح بيروتين بأن ذلك لا يعد إتلافا للعمل الفني، فالموزة مجرد فكرة، لأن قيمة العمل في شهادة الأصالة الموقعة باسم كاتيلان، لأن الموزة لا بد من تبديلها بغيرها قبل أن تتحلل على الحائط.
طالما أثار كاتيلان انقساما حول اتهامه بأنه مخادع أو اعتباره فنانا مبدعا ذا أفكار أصيلة، فهو معترف بأنه لم يتلقّ دراسة أكاديمية عن الفن، بل استمد معرفته الفنية من قراءة كتالوجات المعارض المختلفة.
مع ذلك، لا يسهل اتهامه بالاستسهال دوما، فقد سبق أن قدم أعمالا فنية تبدو أشد تعقيدا، منها تمثاله "هتلر الراكع"، الذي شكّله من الشمع والراتينج، سنة 2001، ويمكن رؤيته من منظورين مختلفين؛ فمن الأمام يرى المشاهد وجه هتلر راكعا يصلي، لكن في حجم صبي صغير، بينما يرى من الخلف طفلا راكعا. وبيع في مزاد علني في نيويورك بمبلغ 17.2 مليون دولار سنة 2016، وهو ما يزيد كثيرا عن المبلغ المتوقع بيعه به.
كما عُرِف عن كاتيلان اللجوء إلى استخدام حيوانات محنطة في أعماله، مثل عمله "نوفيتشينتو"، سنة 1997، وكان عبارة عن حصان محنَّط ربطه كاتيلان بأحزمة، بحيث يتدلى من السقف كأنه قطعة ثريا ضخمة. عُرض سنة 1997 في متحف الفنون المعاصرة بمدينة سيدني.
وفي سنة 1999، قرر كاتيلان لصق بائع أعماله بشرائط لاصقة على جدار معرضه، لمدة يوم كامل، حين افتتح معرضه وقتها.
يبدو أنه يعمد إلى السخرية مما لا نسخر منه عادة، وبهذه السخرية يعبر عن موقف يكشف عالمنا المعاصر ويزدري تناقضاته.
وقد رأى بعض النقاد في كاتيلان امتدادا للفنان الفرنسي الأمريكي مارسيل دوشامب، أبرز من تأثروا بالحركتين الدادائية والسريالية في بدايات القرن الماضي، وكان قد عمد، سنة 1917، إلى تقديم أعمال تسخر من العلاقات الاجتماعية على نحو بالغ العنف، فقد شكّل مبولة من الخزف، وسمّاها "نافورة"، كما رسم سنة 1919 لوحة تحاكي لوحة الموناليزا الشهيرة، مضيفا إليها شاربا ولحية خفيفة، أثار ذلك لغطا ونقدا عنيفا، فلم يكن الذوق الفني وقتها قادرا على استيعاب هذا القدر من الجرأة.
ولم يتوقف التلاعب بتوقعات جمهور الفن وتطلعات متذوقيه عند هذا الحد، فقد عرضت الفنانة اليابانية الأمريكية يوكو أونو، المولودة سنة 1933، عملا فنيا يتكون من مجسم زجاجي عليه تفاحة خضراء. كان ذلك في معرضها بلندن سنة 1966، وحين زاره نجم البيتلز الشهير جون لينون، استغرب وجود التفاحة، ولم يجد سببا لاعتبارها عملا فنيا بمجرد وضعها فوق مجسم زجاجي، فتناولها وقضمها. هنا واجه الفنانة الغاضبة يوكو، التي غضبت من تصرفه، فتحدثا عن الأمر، وقاد سوء تفاهم فني لطيف إلى علاقة حب مشتعلة، توجا زواجهما في آذار/مارس 1966، واستمرت حتى مقتل لينون سنة 1980.
ماذا لو كانت أونو قررت عرض تفاحة منحوتة من البرونز؟ ماذا لو أن كاتيلان اختار نحت موزته من الفضة؟ على الأرجح لن يلتفت إليهما أحد.
هكذا هو الفن وهكذا هي سخريته منا جميعا!