تعرّضت المجتمعات الإنسانيّة في العصور الحديثة لتغيّراتٍ جوهريّةٍ على المستويات المختلفة من حياتها، القيميّة التصوّريّة والمعيشيّة المباشرة.
ومن أهمّ الأسباب التي أدّت إلى ذلك، ما حدث من تطوّرات هائلة في الآلات ووسائل الإنتاج والتكنولوجيا، التي قضت على أنماط حياة المجتمعات التقليديّة وما رسخ حولها من قيم وأفكار، وولّدت أشكالا جديدة من القيم والمعيشة.
وهذا يعني بالدرجة الأولى أنّ الهويّة الإنسانيّة أُعيد إنتاجُها، وصيرورة الهُويّة هذه ليست أمرا يسيرا على الإنسان، الذي يميل في صيغة العموم إلى الاستقرار والبعد عن مسببات القلق، على المستوى الفرديّ والجمعيّ.
وعمل الأدب على رصد هذه التحوّلات على الإنسان ومدى ذهوله في هذا الخضمّ المتسارع من التغيّر والتبدّل، حيث تفككّت العلاقات السائدة والمستقرّة التي اعتادها الإنسان عبر المسيرة الطويلة لمجتمعاته.
وتمثّل رواية "راوية الأفلام" للتشيليّ (إيرنان ريبيرا لتيلي) ترجمة صالح علماني رصدا للتحوّل الذي يُحدثه دخول التلفاز إلى إحدى القرى الصغيرة في تشيلي وتحيا فيها بطلة الرواية (ماريا مارجريتا) فتتعرّض ماريا بسبب التلفاز إلى خسارة جمهورها ومصدر رزقها، وكذلك خسارة هوايتها ومتعتها الرئيسة في الحياة.
اشتُهرت ماريا بقدرتها الفذّة على إعادة سرد قصص الأفلام، وبراعتها الموروثة من أمّها التي تخلّت عن العائلة. وكانت ماريا قد اختارها والدها من بين إخوتها لتشاهد الأفلام الجديدة في سينما القرية وتعود لترويها لهم بعد أن فازت بمسابقة "من يروي الفيلم أفضل من الآخرين" التي أجراها والدها بينهم جميعا. برعت ماريا في رواية أنواع مختلفة من الأفلام، سواء كانت أفلام مارلين مونرو وجاري كوبر أو حتى الأفلام الغنائيّة المكسيكيّة. كانت تحيا كلّ لحظة في السينما وكأنها عالم حقيقيّ متكامل، وتصف الشاشة البيضاء الهائلة كما لو أنّها "المذبح الأكبر في الكنيسة".
وعند إطفاء الكهرباء وإغلاق الستائر، تشعر ماريا وكأنّها "كالمعلقة في الهواء". تقول عن هذه الموهبة: "هذه هي ذروة السحر الغريب الذي تمارسه عليّ السينما. عليّ وعلى أمّي. الفرق بيننا وبين إخوتي وأبي هو أنّ السينما كانت تروق لهم فحسب أما أنا وأمي فتبعث فينا الجنون".
اكتسبت ماريا مزيدا من المهارة في رواية الأفلام وفي استحضار حركات الممثلين مع كلّ فيلم جديد تشاهده وتعيد روايته، ولم يؤدِ ذلك إلى زيادة متعتها هي فحسب، وإنّما أيضا متعة جمهورها الذي لم يعد يقتصر على إخوتها وأبيها، وإنّما شمل أيضا أبناء القرية "منجم ملح البارود" الذي يعيشون ويعملون فيه. جهّزت العائلة أماكن لجلوس الجمهور الذي يدفع تبرّعا بسيطا غير إلزاميّ، وهذه الأجرة البسيطة كانت كفيلة بتغيير إيقاع حياة العائلة، وردم أثر عجز والد ماريا الجسدي عن الحركة وتخلّي والدتها عنهم.
الأفلام التي كانت تشاهدها وتعيد روايتها قدّمت لها أساس فهمها لشخصيّة والدها وإخوتها، والأكثر أهميّة شخصيّة والدتها وعلاقتها المختلّة مع والدها. وعلى مستوى آخر، تعرّفت ماريا على نفسها باعتبارها الفتاة القادرة على رواية الأفلام ومحاكاة كلّ ما تراه. وهذا جعل تقديرها لذاتها يعتمد على هذا الأساس، فقد كانت تشعر بفرح غامر حين تعود إلى البيت والجميع من أهلها وأهل القرية بانتظارها، وحين يؤشّرون إليها وهي في الطرقات قائلين: "إنّها الطفلة التي تروي أفلاما". كانت ماريا مصدر المتعة الوحيدة لأولئك الذين لا يملكون ثمن تذكرة السينما وللعاجزين حركيّا عن الوصول إليها مثل أبيها.
وفي إطار تقديرها لنفسها، أخذت تبحث عن اسم فنيّ يليق بها اقتداء بالفنانين والكتّاب المشهورين، ووقعت في حيرة بين العديد من الألقاب والأسماء، وبحثت عن خيارات في مجلة "إيكران" الفنية، والكتاب المقدس لكنّ أيّا من تلك الأسماء لم يرضها إلى أن استقرّت على "الحوريّة ديلسين".
ويمكن القول إن شخصيّة ماريا تشكّلت باعتبارها راوية أفلام، وكان الناس حولها يعرفونها على أنّها من يقوم بهذا العمل. كانت تّضطرّ إلى العودة إلى الجمهور للانحناء أمامهم أكثر من مرّةً من شدّة حماسهم وانفعالهم! "بعد تلك العروض، يظلّ دويّ التصفيق يتردد في أعماقي طيلة الليل كله بطريقة لا أجد معها إلى النوم سبيلا".
ومع ازدياد شهرة ماريا، أصبحت تُستدعى لرواية الأفلام في المناسبات الخاصة وفي البيوت مقابل أجر مناسب، ومن هنا بدأت نكبتها، فقد تعرّضت للاغتصاب من أحد الرجال وانتقم لها سرّا أخوها الكبير وحدثت أحداث عديدة، من ثمّ اكتُشف أمر أخيها باعترافه وهو سكران.
هنا تستحضر ماريا أن هذه الحياة وما فيها من انقلابات كأنّها مادة مصنوعة للأفلام، وتقلب العبارة "الحياة مصنوعة من مادة الأحلام نفسها"، لتعبّر عن تصوّرها لمادة الأفلام: "إنّ الحياة يمكن لها أن تكون مصنوعة من مادة الأفلام نفسها". كانت ماريّا تعيد رسم الأفلام التي تنساها من خيالها، وتستطيع من خلال ما وصفته بأنّه "ذاكرة فيلمية" لا أن تتذكر الأفلام التي شاهدتها فحسب، وإنّما يمكن لها أن تروي أفلاما سمعت بعض حكاياتها غير مكتملةٍ، لتصل من ذلك إلى فهمها عن الإنسان وهو أنّه يحبّ أن تُروى له الحكايات حتى لو كانت أكاذيب، لأنه الناس يريدون الخروج من واقع حياتهم، حتى لو تحولوا هم إلى مادة الحكاية، حتى لو كانت مادة الحكايات كذبا، وربّما الناس يحبون أن تروى لهم أكاذيب أكثر من حقائق، المهمّ أن تُروى لهم بشكل جيد. وهذا يفسّر سرّ نجاح المحتالين والنصابين، إنّهم حكّاؤون محترفون.
بهذا يمكن القول إنّ حكايات ماريا كانت تمثّل خلاصا مؤقّتا لأهل تلك القرية البائسة الفقيرة من واقعها المؤلم. غيرَ أنّ أحداثا مأساويّة تحدث، فوالد ماريّا يموت، ويُلقى القبض على أخيها الذي قتل مغتصبها، وتخسر بذلك بيتها، بالإضافة إلى أحداث أخرى، لكن في المركز أيضا من هذه الأحداث، و "كضربة قاضية" كما تسمّيها ماريا يأتي التلفاز إلى القرية.
التلفاز سيقضي وإلى الأبد على دور السينما، وكذلك على حاجة الناس لرواية الأفلام والأكاذيب، فكل بيت سيكون فيه راوٍ خاص به. تقول ماريا: "بغياب أخي صرت بلا بيت، وبمجيء التلفزيون صرت عرضة لخطر البقاء بلا عمل".
صار التلفاز بالنسبة لها جهازا مزعجا، ومن يعمل على تركيبه يشبه القراصنة، وصوره شبحيّة غائمة سيفضّلها الناس على روايتها بلا شكّ! غابت مهنة رواية الأفلام وانتشرت في المقابل كلماتٌ جديدة "أوديو، إشارة، جهاز تنقية، قناة..."، حتى الشوارع أصبحت مقفرة أكثر مما كانت تبدو عليه غالبا.. أمور غريبة تحدث، الإنسان يصل إلى القمر، أخبار عن السياسة والحروب، وفيدل كاسترو والسلطة وأشياء لا نهاية لها.
وفي المقابل، تحطّمت حياة ماريا، كانت تشعر بوحشة مرعبة، ولا يؤنسها إلا التلفاز الذي أهداه لها رجل عجوز مقابل متعةٍ جسديّةٍ.