أوبريت فني عرضه تلفزيون "فلسطين" لتمجيد رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، أصبح سبباً في فتح طاقة كبيرة من التساؤلات الشعبية المتعلّقة بالرئيس، أو سيل منها، على نحو لم يكن يرغب به.
فالتحشيد من الإعلام الرسمي وغيره للأوبريت الذي حمل اسم "ملاك السلام"، وهو اللقب الذي أطلقه بابا الفاتيكان على الرئيس أبو مازن عام 2015، انهار عند الساعات الأولى لنشر العمل على قناة تلفزيون فلسطين على منصّة يوتيوب، وأصبح الإعلام الرسمي في وضع ملاكم يتلقّى الضربات في زاوية الحلبة.
تلقّى الأوبريت أكبر كم من الاستياء والانتقاد الحاد للعمل؛ بصورة اضطرت إدارة القناة لحذفه مرتين من يوتيوب ثم إعادة نشره، والاستسلام للرأي العام الذي استعان بزر "لم يعجبني" ليعبر عن غضبه ويلتقط فرصة ثمينة لنقد الرئيس وسياساته، فكانت محصلة الأشخاص الذين ضغطوا على زر "لم يعجبني" تعادل نحو 90 في المئة من مجمل الذين أبدوا رأيهم في العمل، بمعزل عن الانتقادات التفصيلية للعمل، سواء المتعلقة بمضامين الأوبريت أو التكلفة المالية له في ظل ادعاء الأزمة، فإن الانتقاد غير المسبوق له، يتضمن دلالات مهمة، هي:
- إعلان احتجاج فلسطيني عام بطريقة جديدة ضد نهج التسوية السياسية "العقيم" الذي تقوده حركة فتح والرئيس أبو مازن، الحاصل على الدكتوراة في "تاريخ الصهيونية" من موسكو، بما يفرض أن يكون أكثر وعياً بأساليبها.
- استفتاء شعبي يمثل مدعاة لقلق قادة السلطة قبل الانتخابات المترقّب إصدار مرسوم رئاسي لإجرائها في الضفة المحتلة وقطاع غزة، وهو استفتاء ينضم إلى ثلاثة استطلاعات رأي عام نشر نتائجها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية (وهو مؤسسة بحثية مستقلة مقرها برام الله) بالضفة والقطاع خلال العام 2019؛ انتقلت فيها نسبة المطالبين باستقالة الرئيس أبي مازن من 55 في المئة مع بداية العام إلى 61 في المئة مع نهاية شهر أيلول/ سبتمبر من العام نفسه! ولأنه لا أحد يستمع، فإن الحلّ يكون بالتكرار المُلحّ.
- انقلاب في أدب الثورة الذي تأسس على مفاهيم الرفض والاحتجاج والتحريض على المواجهة. فحين كنّا بحاجة إلى التعبير الفني وكانت الثورة سلاحاً على الأكتاف، أصبحت أوبريت فنيا وتظاهرة على دوار "المنارة"!
- كينونة الشعب الفلسطيني وهويته لا تقبل نمط القيادة المسالمة، القائمة على إنكار غيرها مقابل اليقين الخاص بها وبسلوكها. فالفلسطيني مدرك أن 14 سنة لأبي مازن في الرئاسة لم تمنع حتى جندي إسرائيلي أن يتبوّل على جدار المقاطعة! ولم تنجح منذ عام 2009 في إقناع رئيس وزراء الاحتلال بقبول مقابلته؛ رئيس الوزراء الذي قدّم لإسرائيل الكثير ويحاكم حالياً على هدايا وزجاجات شامبانيا!
لم يقدم أبو مازن للشعب الفلسطيني ما يستوجب التمجيد عليه، وفشل في منازعة قادة فلسطينيين كسبوا الاحترام بتضحياتهم، وبمعرفة الطريق. وهنا أستذكر مقابلة قناة الجزيرة التي سئل فيها الشيخ أحمد ياسين رحمه الله: "مَن مِن الممكن أن يخلف ياسر عرفات في السلطة؟"، فأجاب باسم محمود عباس؛ لأنه كما قال "صاحب اتفاقية أوسلو ورجل الاتفاقات والمحادثات، فهم مطمئنون أن يظل في الطريق الذي يريدونه"، كان ذلك في عام 1999م، أي قبل تولي عباس الرئاسة بست سنوات.
بل إن السياسة التنازلية لأبي مازن غذّت الفكر اليميني الصهيوني نحو مزيد من الإجراءات والسياسات القهرية في الأراضي المحتلة. ففي عام 2005 استوطن الضفة نصف مليون صهيوني في 130 مستوطنة، ونمت مع ولاية الرئيس لنحو مليون صهيوني في 503 مستوطنات حتى نهاية العام الحالي 2019! ولم يصدر عن مؤسسة الرئاسة في فترة ولاية أبي مازن لم يخرج عن الشجب والتنديد لكل الانتهاكات التي تعرّض لها الفلسطيني، وفي أكثرها قسوة ودموية. بل كانت أكثر حدة في سياق الخصومة السياسية مع قطاع غزة، وهو ما خلق حالة الإنكار المطلق لمضامين الأوبريت والأشعار التي أوجدت في أبو مازن صفات ليست فيه، حتى قيل إن الكلمات حمّلته "الرصاص" الذي يرفضه قولاً وفعلاً!
معدل عدم الإعجاب بـ"ملاك السلام" قد يجعله الأوبريت الفني الأخير لتلفزيون فلسطين، لكن ذلك لن يمنع إدارة القناة من إعادة النظر في سياستها التحريرية وخطّها العام للإنتاج؛ التزاماً وجودياً منها. كما لن يمنع الوقوع في هذا الحرج، الرئيس أبو مازن من تغيير قناعاته، فحين كان الأجدر أن تغيّرها جريمة الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، فهل كنا نتوقع أن يغيرها أوبريت غنائي؟
"ملاك السلام" وشيطان الاستيطان
لغز زيارات إسماعيل هنية المؤجلة إلى موسكو