قضايا وآراء

أردوغان وداود أوغلو.. فراق متوقع

1300x600

ثمّة أسباب عديدة للخلاف، رئيسية وفرعية، أهمها بالطبع إصرار داود أوغلو على الاحتفاظ بصلاحياته التنفيذية رئيساً للوزراء، حسب الدستور الحالي، وإصرار أردوغان على التصرف وكأنه الحاكم الفعلي للبلاد، بعدما تم انتخابه لأول مرة من الشعب، في اقتراع حرّ ومباشر.


ويمكن القول إن انسحاب داود أوغلو مثّل منعطفاً مهماً في مسيرة الانتقال إلى النظام الرئاسي التي بدأت نظرياً مع انتخاب الرئيس أردوغان، صيف العام 2014، وتعيش تركيا الآن ما يشبه مرحلة انتقالية بين النظامين، البرلماني والرئاسي، بل ما بين حقبتين، أي حقبتي أتاتورك وأردوغان، ويفترص أن يجري العمل لتجاوزها بأقل الأثمان والتكاليف على الحزب، كما البلد بشكل عام، وعلى كل المستويات السياسية الاقتصادية الاجتماعية والأمنية، وهو ما عمل ويعمل عليه أردوغان، بإصراره على تعجيل وتيرة صياغة الدستور وطرحه للاستفتاء، والانتهاء من الأجندة الإصلاحية والدستورية بأسرع مدى زمني ممكن، ومن ثم التفرّغ لمواجهة الأزمات والتحديات المطروحة، ما يعني أن ملفات عديدة ستكون مؤجّلةً إلى ما بعد الورشة الدستورية.

وهذا لا ينطبق طبعاً على القضية السورية التي باتت وبامتياز قضية داخلية، كما على المعركة المفتوحة ضد "داعش" وحزب العمال الكردستاني، في تركيا وسوريا على حد سواء.

 

تعيش تركيا الآن ما يشبه مرحلة انتقالية بين النظامين، البرلماني والرئاسي، بل ما بين حقبتين، أي حقبتي أتاتورك وأردوغان، ويفترص أن يجري العمل لتجاوزها بأقل الأثمان والتكاليف على الحزب، كما البلد بشكل عام

هذه كانت فقرات من مقال أردوغان وداود أوغلو "خلاف متوقع" الذي كتبته قبل ثلاث سنوات تقريباً (10 أيار/ مايو 2016) والخلاف تحول إلى فراق كان متوقعاً أيضاً. والأسباب التي أدت إلى الخلاف قبل سنوات تطورت تراكمت، وأدت مع انتهاء المرحلة الانتقالية التي عاشتها تركيا إلى الفراق الرسمي الذي بدأ بقرار قيادة حزب العدالة تحويل أوغلو للجنة الانضباط (أيلول/ سبتمبر 2019)، تمهيداً لفصله حسب الإجراءات واللوائح الحزبية المتبعة، ما دفعه إلى الاستقالة والمغادرة لتشكيل حزب جديد.

أسباب الخلاف التي أدت لاستقالة أو إقالة أحمد داود أوغلو من الحكومة وقيادة الحزب قبل ثلاث سنوات تقريباً، تمثلت بالرؤية المتناقضة تجاه إدارة الحزب والدولة. داود أوغلو اعتقد أن الدستور يعطيه الحق في قيادة الحكومة، لأن النظام كان برلمانياً، كما يعطيه الحق في إدارة الحزب بعدما استقال أردوغان منه (حسب الدستور أيضاً) من أجل الترشح للانتخابات الرئاسية في آب/ أغسطس 2014 التي فاز فيها باقتراع شعبي حرّ مباشر لأول مرة في تاريخ البلاد.

أما الرئيس أردوغان فاعتقد من ناحيته أن البلد انتقل أو تحرك في اتجاه النظام الرئاسي، وأن الانتخاب الشعبي المباشر يعطيه قوة معنوية للمشاركة الفعلية في السلطة والإدلاء بدلوه في القضايا المطرحة، وأنه باني ومؤسس الحزب ويتمتع بنفوذ كبير فيه، ولا يمكن بالتالي تركه لداود أوغلو يديره كيفما شاء.

 

أسباب الخلاف التي أدت لاستقالة أو إقالة أحمد داود أوغلو من الحكومة وقيادة الحزب قبل ثلاث سنوات تقريباً، تمثلت بالرؤية المتناقضة تجاه إدارة الحزب والدولة

كانت ثمة خلافات سياسية تتعلق بمكافحة جماعة فتح الله غولن، حيث اعتقد داود أوغلو أنها تمت بنجاح في السياق المدني (2013-2016) طبعاً بعد كسرها تنظيمياً اقتصادياً وإعلامياً، بينما استشعر أردوغان بحدسه وخبرته خطرها الكامن، وهو ما تحقق فعلاً في الانقلاب العسكري الفاشل الذي نفذته الجماعة صيف العام 2016.

كان خلاف في ما يتعلق بالتفاوض مع الاتحاد الأوروبي حول قضية اللاجئين السوريين، كما انضمام تركيا للاتحاد. داود أوغلو رأى أنه مخوّل للتفاوض والحسم حسب الدستور، بينما فهم أردوغان أن المفاوضات لا تسير بشكل جيد، ولولا تدخله القوي الحازم ما كان بالإمكان التوصل للاتفاق (آذار/ مارس 2016) الذي حاول داود أوغلو تجييره لمصلحته بصفته رئيس الحكومة، مدعوماً في ذلك من الطرف الأوروبي الذي سعى لنسب الإنجاز لداود أوغلو لتعميق خلافه مع أردوغان..

كان خلاف أيضاً حول عملية التسوية مع حزب العمال الكردستاني وزعيمه المعتقل عبد الله أوجلان، العملية التي مثلت أصلاً أول صِدام فعلي بين أردوغان وجماعة غولن، التي أصدرت مذكرة توقيف بحق رئيس المخابرات هاكان فيدان (شباط/ فبراير 2012) للقائه ممثلي الحزب في أوسلو بأوامر من الرئيس أردوغان، الذي استنتج لاحقاً أن الحزب زاد تطرفاً وغطرسة، بعد استخدامه من قبل واشنطن لمحاربة داعش في سوريا، وأنه ليس بوارد التوصل إلى اتفاق سلام جدي، بل يصر في المقابل على المضي قدماً في أفكاره التقسيمية في سوريا وتركيا على حد سواء، بينما كان داود أوغلو أكثر ليونة ولم يوافق قائده تماماً في خلاصاته واستنتاجاته.

الأمر أو الخلاف المؤسساتي السياسي بدا معقّدا ومتشابكا، ولا ينفصل عن الرؤية للنظام ككل. كون داود أوغلو تبنى دائماً فكرة صياغة دستور مدني توافقي يؤسس لنظام برلماني راسخ، ويكفل بالتأكيد خضوع المؤسسة العسكرية للقيادة السياسية المنتخبة، كما في أي نظام ديمقراطي، بينما كان الرئيس أردوغان قد أقلع فعلاً في مشروعه للتحول إلى النظام الرئاسي والاكتفاء بتعديل محدود وجزئي للدستور ولو على المدى القصير.

تراكمت الخلافات والرؤى، فأقال الرئيس أردوغان؛ داود أوغلو أو أجبره على الاستقالة (أيار/ مايو 2016) من رئاسة الحزب والحكومة، وفضل الأخير عدم الصدام وإفساح المجال للقائد أو المؤسس لفرض إراداته مع البقاء عضواً عادياً في الحزب.

 

خلال السنوات الثلاث الماضية أخذ الرئيس أردوغان البلد والحزب في الاتجاه الذي رسمه مسبقاً، نجح في تمرير النظام الرئاسي بتحالف مع الحزب الحركة القومية، ثم أجرى تغييرات واسعة في قيادة الحزب والحكومة مخرجاً، كل الجيل أو الحرس القديم

وخلال السنوات الثلاث الماضية أخذ الرئيس أردوغان البلد والحزب في الاتجاه الذي رسمه مسبقاً، نجح في تمرير النظام الرئاسي بتحالف مع حزب الحركة القومية، ثم أجرى تغييرات واسعة في قيادة الحزب والحكومة، مخرجاً كل الجيل أو الحرس القديم وصولاً إلى الفوز ولو بصعوبة في حزمة الإنتخابات الرئاسية والبرلمانية وحتى المحلية، رغم تراجع الحزب وفقدانه المدن الكبرى، لكن مع احتفاظه بالتفوق على المستوى الوطني والأغلبية البسيطة (أكثر من 50 في المئة) عبر التحالف مع حزب الحركة القومية.

أما داود أوغلو فتحفظ على كل المسيرة السابقة، وهو كان أصلاً ضد النظام الرئاسي، كما رفض التحالف "الضار" مع حزب الحركة القومية اليميني، الذي أدى برأيه إلى تراجع شعبية الحزب وانفضاض شريحة جماهيرية وسطية وكردية مهمة من حوله.

عموماً فقد تصرف أردوغان كسياسي، بل كاستراتيجي، معتقداً أن الأهداف الوطنية تستحق بعض التنازلات أو حتى التراجعات الحزبية، كما رأى أن مواجهة التحديات والتحولات الخارجية العاصفة تحتاج لتحالف وطني عريض واسع قدر الإمكان مع الإشارة دائماً، إلى أنه صاحب الرؤية السياسية الاقتصادية الاجتماعية التي أدت إلى نهضة البلد وصعوده، دون نكران دور وجهد من شارك في رسم السياسات وتنفيذها، بما فيهم علي باباجان وداود أوغلو نفسه.

ومن هنا لم يجد داود أوغلو لنفسه دوراً أو مساحة قيادية، فقدم ملاحظات شفهية وكتابية خلال السنوات الماضية لم يتم الأخذ بها من قيادة الحزب، فجاهر بمواقفه علناً، خاصة بعد الأزمة الاقتصادية الصيف قبل الماضي، ثم الخسارة أو التراجع في الانتخابات المحلية الربيع الماضي. وطبعاً، لا يتحمّل أي حزب حتى في نظام ديمقراطي انتقادات علنية من أي عضو فيه، فوصلنا إلى مشهد أيلول/ سبتمبر الماضي من إحراج وتهديد بالإقالة، فاستقالة تماماً كما جرى في 2016.

 

يجب عدم التعاطي مع هذا المشهد بحساسية أو خجل، كونه يحصل في نظام ديمقراطي ومرحلة تأسيسية، وطنياً وحزبياً. والأسس تبدو صلبة راسخة والتحولات تتم بشكل سلمي ديمقراطي هادئ

أعلن أوغلو الجمعة الماضية (13 كانون الأول/ ديسمبر) رسمياً عن تأسيس حزبأ جديداً أسماه المستقبل كي يبقى منسجماً مع نفسه، ومبادئه وقناعته. وخطاب التأسيس شمل معظم المعطيات السالفة الذكر، تحديداً نقطة الخلاف المركزية المتعلقة برفض النظام الرئاسي والسعي لعودة النظام البرلماني مع دستور عصري جامع. أما حزب العدالة فيبدو في طريقه للانقسام بشكل ما إلى ثلاثة أحزاب، مع استعداد القيادى المستقيل علي باباجان للإعلان عن حزبه الجديد مطلع العام القادم.

وعموماً يجب عدم التعاطي مع هذا المشهد بحساسية أو خجل، كونه يحصل في نظام ديمقراطي ومرحلة تأسيسية، وطنياً وحزبياً. والأسس تبدو صلبة راسخة والتحولات تتم بشكل سلمي ديمقراطي هادئ بعيداً عن العنف والاستبداد، ودائماً على قاعدة تركيا الجديدة المدنية الديمقراطية العلمانية، بحرياتها الأساسية سياسياً اقتصادياً واجتماعياً، والمنفتحة دائماً على تاريخها ثقافتها وعقلها الجمعي.