وحدات من الجيش الأردني نفذت
خلال الأيام الماضية تمرينات عسكرية تحاكي التصدي لغزو إسرائيلي مفترض، وقد جرت
هذه التدريبات بحضور الملك عبدالله الثاني ورئيس الوزراء، وسط اهتمام رسمي واسع،
ما يعني أن المزاج العام في الأردن يوحي بالاستعداد لسيناريوهات عديدة تشتمل على
ما هو أسوأ بكثير من "صفقة القرن" وما تسرب عنها حتى الآن.
خلال الشهور الأخيرة، أصبح واضحا أن ثمة أزمة
عميقة بين الأردن وإسرائيل، وقد ظهر ذلك جليا برفض الأردن تجديد العمل بالملحق
الخاص بمنطقتي الغمر والباقورة، وإصراره على استعادة المنطقتين، ومن ثم زيارة
الملك لتلك المناطق، مرتديا زيه العسكري، ومعتبرا أنها "مناطق محررة"،
وأخيرا بإحالة المتسلل الإسرائيلي إلى محكمة أمن الدولة الأردنية، ليكون أول
إسرائيلي يمثل أمام المحكمة في تاريخ القضاء الأردني.
يشعر الأردن بأنه بدأ يخسر من جراء السياسات
الأمريكية والإسرائيلية التي تتجاهل دوره التاريخي في القضية الفلسطينية، وفي
القدس المحتلة على وجه الخصوص، إضافة إلى أن تسريبات "صفقة القرن"، وكل
المؤشرات التي تحيط بها تشير إلى تجاهل حقيقة أن الأردن يستضيف العدد الأكبر من
اللاجئين الفلسطينيين، ما يدفع إلى الاعتقاد بأن تل أبيب وواشنطن ربما ترغبان أيضا
بحل هذه القضية على حساب الأردن.
كل هذه المعطيات تأتي على
الرغم من معاهدة "وادي عربة" التي أبرمها الأردن مع إسرائيل في العام
1994، والتي يتبين اليوم بعد ربع قرن على إبرامها أنها لم تكن كفيلة بحماية مصالح
الأردنيين وحقوقهم، لا بل إن إسرائيل انتهكت وتنتهك أغلب ما تعهدت به في تلك
الاتفاقية منذ إبرامها حتى الآن، ابتداء من ضخ المياه العادمة باتجاه الأردن في
العام 1997 والتي تسببت حينها بأسوأ أزمة تلوث يعرفها الأردنيون، وصولا إلى
التغييرات التي تقوم بها إسرائيل، وبدعم أمريكي، في القدس المحتلة لتغيّر الواقع
في المدينة المقدسة وتُثبت فرضية أن هذه المدينة هي عاصمة الدولة العبرية، وهو ما
يشكل انتهاكا واضحا ومباشرا لنصوص الاتفاقية.
اتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية التي تم
توقيعها برعاية أمريكية وبضمانة من واشنطن نصت بشكل واضح في مادتها الثامنة على أن
حل قضية اللاجئين يجب أن يتم عبر مفاوضات تكون الأردن ومصر طرفا فيها، كما أن
المادة التاسعة تنص على أن "إسرائيل تحترم الدور الحالي الخاص للمملكة
الأردنية الهاشمية في الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس، وعند انعقاد مفاوضات
الوضع النهائي ستعطي إسرائيل أولوية كبرى للدور الأردني التاريخي في هذه الأماكن".
العدوان الإسرائيلي المستمر على القدس
والأراضي الفلسطينية، وعملية إعادة تعريف من هو اللاجئ الفلسطيني، وخفض المعونات
الأمريكية لوكالة "الأونروا"، إضافة إلى تسريبات "صفقة القرن"
التي تتردد بين الحين والآخر، كلها تؤكد أن الولايات المتحدة وإسرائيل قد نكثا
بالمعاهدة ولم يحترما الاتفاق الذي وقعه الأردن، هذا فضلا عن أن الأردن لم يستفد
الكثير على المستوى الاقتصادي منذ توقيع الاتفاق وأن الوعود أيضا في هذا الاتجاه
ذهبت أدراج الرياح.
بالاعتماد على كل هذه
التطورات فإن الشعور العام في الأردن أصبح يشير إلى أن معاهدة السلام ليست ضمانة
كافية لتحقيق مصالح البلاد، وإن الإسرائيليين ينكثون عهدهم عندما يحتاجون لذلك،
وهو ما أعطى شعورا عاما في قلب النظام في الأردن أن إسرائيل عادت لتصبح واحدة من
التهديدات الاستراتيجية التي تواجه المملكة الهاشمية، وهو ما يُفسر جملة الإجراءات
التي اتخذها الأردن والتي شملت استعادة الأراضي المؤجرة للإسرائيليين (الباقورة
والغمر) وإجراء التدريبات العسكرية التي تحاكي التصدي لغزو عسكري إسرائيلي.
بدأ الأردن يدرك بعد ربع قرن
على إبرام المعاهدة أن الرهان على إسرائيل خاسر، وأن التحالف مع تل أبيب لا يجلب
الأمن، ولا يحقق المصلحة العليا، ولا يأتي حتى بالرفاه الاقتصادي، لا بل ثمة تيار
داخل الأردن كان يؤيد معاهدة السلام، وها هو اليوم نادم على موقفه السابق، وثمة
تيار آخر يطالب بإلغاء المعاهدة بشكل كامل في حال نفذت الولايات المتحدة
"صفقة القرن" بصيغتها المسربة التي تضر بالمصالح العليا للأردن.
(القدس العربي)