من بين أسوء نتائج رئاسة ترامب، أن كل ما نتحدث عنه هو دونالد ترامب. لا تسئ فهمي، إذ كيف لنا ألا ننشغل برئيس يعمل يوميا على إضعاف ركنين من أركان ديمقراطيتنا: الحقيقة والثقة؟ ولكن هناك بعض التغيرات المهمة التي تجري حاليا خلف آلة الضجيج ترامب، وتقتضي نقاشا وطنيا جديا، مثل مستقبل العلاقات الأمريكية- الصينية. ومع ذلك فإن النقاش لا يحدث؛ لأن كل ما نتحدث عنه هو دونالد ترامب.
لنتأمل التالي: في 9 نوفمبر (تشرين الثاني)، تجمع القادة الأوروبيون في برلين من أجل إحياء الذكرى الثلاثين لسقوط جدار برلين، وهي ذكرى تستحق الاحتفال. ولكن يبدو أن لا أحد لاحظ أنه بعد 30 عاما تقريبا على سقوط جدار برلين، أخذ جدار جديد – جدار برلين رقمي – ينتصب بين الصين وأمريكا. والشيء الوحيد الذي لم يحدد بعد، مثلما قال لي مدير شركة صيني، هو «مدى ارتفاع هذا الجدار»، والبلدان التي ستختار أن تكون على هذا الجانب أو ذاك.
هذا الجدار الجديد، الذي يفصل تكنولوجيا ومنطقة تجارة تتزعمها الولايات المتحدة عن تكنولوجيا ومنطقة تجارة تتزعمها الصين، ستكون له تداعيات كبيرة كبر تداعيات الجدار الذي كان يشطر برلين إلى شطرين، وذلك لأن السلام والرخاء وتسارع التكنولوجيا والعولمة، التي أفادت العالم أيما إفادة، خلال الأربعين عاما الماضية، كانت تعزى، جزئيا، إلى تداخل الاقتصادين الأمريكي والصيني.
عملية الفصل الفوضوية والمرتجلة لهذين الاقتصادين، التي تحرّكها حسابات خاطئة على كلا الجانبين، ستُحدث بلا شك اضطرابات في تلك الاتجاهات، كما أن كلفتها ستكون باهظة جدا؛ ولهذا فإنه حري بنا التحدث عن هذا الموضوع.
وزير الخزانة الأمريكي السابق «هانك بولسون» ألقى خطابا قبل عام، محاولا إطلاق ذاك النقاش فقال: «لأربعين عاما، تميزت العلاقة الأمريكية- الصينية باندماج أربعة أشياء هي: السلع، والرأسمال، والتكنولوجيا، والناس. وخلال هذه الأربعين عاما، كان يفترض بالاندماج الاقتصادي بين البلدين أن يخفف التنافس الأمني؛ ولكن تقييما نزيها فكريا يجب أن يعترف الآن بأن هذا لم يحدث، وبأن العكس هو الذي يحدث».
هذا الانعكاس يحدث لسببين. أولا، لأن الولايات المتحدة لم تعد مستعدة – عن صواب – لقبول قيود الصين التجارية على استيراد السلع الأمريكية، والتجاوزات في مسألة الملكية الفكرية من الشركات الأمريكية. وثانيا، لأنه الآن وقد باتت الصين قوة تكنولوجية، فإن الجانبين يتصارعان حول تحديد ما يمكن شراؤه وبيعه من وإلى الطرف الآخر، من دون الإضرار بأمنهما القومي.
والنتيجة، يقول «بولسون»، هي أنه «بعد 40 عاما من الاندماج، بات عدد مفاجئ من الزعماء السياسيين وزعماء الفكر من الجانبين يدعون إلى سياسات، يمكن أن تفصل البلدين بالقوة، عبر كل النواحي الأربع». وإذا تواصل هذا الاتجاه، فـ«علينا أن نواجه إمكانية انهيار في اندماج أنظمة الابتكار العالمي، نتيجة الجهود المتبادلة من قبل الولايات المتحدة والصين لإقصاء إحداهما الأخرى».
ولهذا، يقول «بولسون» مستنتجا: (أرى الآن إمكانية جدار حديدي اقتصادي – جدار يبني جدرانا جديدة على كل جانب، ويغيّر وجه الاقتصاد العالمي، مثلما كنا نعرفه)!
والواقع أنه بإمكان المرء أن يحاجج بأن جدار برلين «رقميا» بدأ في الانتصاب قبل سنوات عدة، عندما أنشأت الصين «الجدار الناري العظيم» بهدف عزل الإنترنت داخل الصين عن الإنترنت العالمية. ولكن «جدار برلين الرقمي» شهد دفعة قوية في 17 أيار/مايو الماضي، عندما وضع ترامب شركة «هواوي» الصينية – التي تُعد ثاني أكبر مصنّع في العالم للهواتف الذكية، وأكبر مصنّع لمعدات شبكة الجيل الخامس من الاتصالات في العالم - على القائمة الأمريكية للمؤسسات غير المسموح لها بالحصول على أي مواد من دون ترخيص.
وهذا معناه أن أهم مصنّع للتكنولوجيا في الصين وعددا من الشركات التابعة له، عبر العالم، أُدرج في القائمة السوداء، ولم يعد بإمكانه شراء مكوّنات من مورّديه الأمريكيين الرئيسيين – مثل جوجل وكوالكوم وإنتل ومايكرون ومايكروسوفت – من دون ترخيص خاص. بعض المسؤولين الأمريكيين حاججوا بأن «هواوي» مذنبة في تسهيل التجسس الصيني، وأنها انخرطت في الاحتيال وسرقة التكنولوجيا وانتهاكات تتعلق بالعقوبات الأمريكية ضد إيران.
وبغض النظر عن مبررات ذلك، فإن هذه الخطوة تعادل حظر «آبل» أو «مايكروسوفت» في الصين. لقد كانت زلزالا قويا في أراضي الصين التكنولوجية. زلزال «أيقظ الجميع في الصين»، كما قال لي مدير شركة اتصالات صينية بارز، الذي أضاف: «علينا أن نبني على مجموعة من تكنولوجياتنا الخاصة، حتى نتحقق من أننا بأمان. لقد قلّلوا كليا من شأن ما فعلوه».
إن صوت التمزق الذي تسمعه هو صوت اقتصادين عملاقين أخذا ينفصلان.
والآن أخذ ذاك التمزق يمتد إلى الشعب. فمنذ 11 حزيران/يونيو الماضي، بدأت وزارة الخارجية تفرض قيودا على تأشيرات الطلبة الصينيين الذين يدرسون في مجالات حساسة – مثل الطيران والروبوتات والتصنيع المتطور – وتحصرها في سنة واحدة، بدلا من خمس سنوات. كما كانت ثمة حملة تضييق على الاستثمارات الصينية في أي شيء قريب من البنية التحتية الأمريكية أو الصناعات المرتبطة بالجيش.
ما الذي ينبغي فعله؟
لا شك أنني قلق بشأن السماح للصين ببيع تكنولوجيات في أمريكا قد تُستخدم في التجسس، ولكن أجدني أميل على نحو متزايد إلى الرأي الذي يرى أن الجميع يتجسس على الجميع، وسيواصلون فعل ذلك. كما أنني أميل على نحو متزايد إلى الرأي الذي يرى أنه إذا كان بعض الطلبة الصينيين «منخرطين في أعمال تجسس»، فإن الأغلبية الساحقة منهم ليست كذلك، ومواهب هذه الأخيرة تغذّي صناعاتنا ومدارسنا وتفيدها. كما أنني قلق على نحو متزايد، لأننا بفرضنا عددا متزايدا من القيود على الصادرات والتأشيرات، فإننا سنعزل ونحرم أنفسنا من إمكانية الوصول التي نحتاجها إلى أسواق الاستثمار العالمية والزبائن والعلماء والمهندسين المتعاونين، للحفاظ على تقدمنا التكنولوجي.
ولهذا، علينا أن نتوقف ونسأل أنفسنا بالضبط، إلى أين نحن متجهون بهذه الحرب التجارية/التكنولوجية مع الصين؟ وعلى بكين أن تفعل الشيء نفسه.
عن صحيفة الاتحاد الإماراتية