قضايا وآراء

المعيارية المفقودة

1300x600

تسقط المعياريَّة تماما في قبضة الصيرورة، وتذوب فكرة المرجعيَّة؛ حين يضع الإنسان (أي إنسان) نفسه معيارا للقيم، ذلك أن الإنسان كائن تاريخي حادِث، دائم التغيُّر والتبدُّل. صحيح أن فطرة الله (التي فطر الناس عليها) تُبقي على الحد الأدنى مما يمكن تسميته بـ"المشترك الإنساني"، سواء اعترف به الجميع أو أنكره بعضهم؛ لكن دور هذه الفطرة ليس تشكيل المرجعيَّة، أو اختلاقها؛ بل التمييز بين المرجعيَّات المطروحة لاختيار الموافِق منها للفطرة، لاختيار الناموس الإلهي الموافِق للتكوين الإلهي؛ حتى يتحقَّق الإنسان وتنسجم روحه مع بدنه بانسجام الكسب مع الفطرة.

لهذا، فخاتم الكتب، الذي أوحي به إلى حضرة خاتم الرُسل صلى الله عليه وآله وسلم ليكون للعالمين نذيرا، إلى يوم يبعثون؛ هو نصُّ هداية وناموس مرجعي فوق التاريخ، فهو معيار محفوظ لا يتغيَّر ولا يتبدَّل، إذ يحوي كل القيم الأساسيَّة التي تحتاجها الإنسانيَّة في رحلتها إلى الله حتى قيام الساعة. يليه ما صحَّ من سنَّة النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم كشرح عملي وأسوة حسنة (كما سماه القرآن) في تمثُّل القرآن والعيش بمقتضى الناموس الإلهي.

ولا تبدأ المأساة الإنسانيَّة إلا حين يتألَّه الكائن البشري الحادِث المحدود، رافضا حاكميَّة النص المتجاوز للتاريخ؛ ليضع نفسه لا معيارا للقيمة فحسب، بل ومصدرا للإلزام بها كذلك. ساعتها تنحرِفُ البشريَّة انحرافا هائلا عن التوحيد، ومن ثم عن إنسانيتها؛ وقد يقع مثل هذا الانحراف في مجتمعات تسمَّى مسلمة، وهي تُوغِلُ كل يوم في الشرك بغير وعي. ومن أمثلة ذلك: من يرى أن حجاب المرأة الشرعي ليس فرضا لأن أمه لم تكن ترتديه، لا لأن "تأويله" للنصوص الشرعيَّة قد قاده إلى ذلك! أو من يرى أن المسلم قد يظل مسلما، لا ينتقص دينه وهو لا يصلي؛ لمجرَّد أن أباه عُرِفَ في مجتمعه بأنه مسلم، وهو لم يكن يصلي. هذا التألُّه البشري يختلِف جذريّا عن التأول الخاطئ أو حتى عن التأويل "التآمري". إذ إن هذا التألُّه يعني تفريغ الدين من مضمونه في روع المتلقي، لا انحراف المتديِّن بتأول فاسد فحسب؛ بعد إذ صار كل فعلٍ ينتمي إلى الدين، حتى ما كان كُفرا بواحا به!

 

هذا التألُّه البشري يختلِف جذريّا عن التأول الخاطئ أو حتى عن التأويل "التآمري". إذ إن هذا التألُّه يعني تفريغ الدين من مضمونه في روع المتلقي

وبغض النظر عن النصوص الشرعية، والأمثلة العملية من السيرة والسنة النبوية؛ التي تتناول كل قضية، فإن الكارثة ليست في تبني الرأي الباطِل نفسه، بل في الدليل الذي يسوقه الإنسان في هذه المسائل الوجوديَّة، وهو دليل تاريخاني وضعي لا قيمة له في ميزان الله، بل لا قيمة له في ميزان أحد من البشر، الوالغين في الجاهليَّة؛ سوى المستَدِلّ به، بما أن لكل إنسان منهم ميزانه النسبي الخاص!

إذ إن ما يأتيه البشر يُستَدَلُّ على صحته من الوحي، ولا يستدل به معياريّا أبدا؛ مهما كان ثقل الواقع والتجربة التاريخيَّة على النفس.. وهذا ينطبق على كل البشر بلا استثناء، مهما كانت مكانتهم. كلهم حاشا المعصوم بعصمة الله له، فيما بلَّغ عن رب العزة؛ صلى الله عليه وآله وسلم.

ولعل الافتقاد للمعياريَّة هو أحد أهم أسباب ونتائج أزمة سقوط القدوة، التي تناولناها في مقالنا السابق؛ لكن جلي أن القدوة ليست مرادفا للمعيارية، وإنما هي النموذج الدال على المعياريَّة، الأسوة الحسنة؛ والشاهد الحادي إليها، ومن ثم؛ فالصلة وثيقة. وبما أن التقليد هو جوهر التديُّن، لذا؛ كان غياب القدوة وعدَم التقليد مرادفا لاختفاء المعياريَّة (بنسبةٍ كبيرةٍ) من دائرة الفعاليَّة المباشرة، لا من دائرة الوجود البراني.

 

القدوة ليست مرادفا للمعيارية، وإنما هي النموذج الدال على المعياريَّة، الأسوة الحسنة؛ والشاهد الحادي إليها، ومن ثم؛ فالصلة وثيقة

إن استناد الرأي/ الحجَّة/ الفعل إلى الوحي/ المركز/ المعيار؛ لا يزوَّدنا فحسب بالحد الأدنى من اليقين ذي المصدر المتجاوز للوجود الإنساني المحدود، وإنما يكشِف كذلك معالم المعياريَّة في الممارسة العمليَّة. صحيح أن مساحة وجهات النظر (الاجتهاد) تظل موجودة، ولا تختفي؛ لكنَّها تبقى تابعة لمعيارٍ واضح. هذا المعيار هو الذي يحكم كذلك مجال الاجتهاد (أو وجهات النظر!)، ويحول بذلك دون السيولة التي تمنع التلاقي حتى في أبسط الأمور التي تضمن سلاسة سير الحياة اليوميَّة واستقامة أمرها.

إن خضوع كل شيء للمنطِق النسبي والتاريخاني (ووجهات النظر!)، لا يعني فحسب تغييب المعياريَّة والسقوط في دائرة الشرك (وانعدام أثر القدوة إن وجدت)، وإنما يعني كذلك غياب الحد الأدنى من اليقين في أي شيء، ومن ثم هيمنة السيولة على كل شيء؛ فلا خير ولا شر، ولا حق ولا باطل، ولا فارق بين الشيء ونقيضه، ومن ثم؛ فلا فارق بين أي خيارات قد يختارها الإنسان، فقد تساوى كل شيء؛ نظريّا على الأقل، بل إن هذا السطح الأملس السائل من تغييب المعيارية، وذوبان اليقين في أي شيء؛ سوف يؤدي تلقائيّا لا إلى التسوية الماديَّة بين كل موجود، وتساوي الحق والباطل فحسب، بل إن نتيجته النهائيَّة الحتميَّة هي سقوط الإرادة الإنسانيَّة وضمور الوعي الإنساني، بعد تساوي كل الخيارات. إن نتيجته الحتميَّة موت الإنسان ذاته، ولو ظل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.