ارتبطت بدايات الرواية الحديثة بتصويرها مشكلات المجتمع تصويرًا موضوعيًا ناقدًا دون محاولة تجميله، أو فرض دور الوصاية عليه، متجاوزة بذلك ما كانت تقوم عليه الرواية التقليدية من اهتمامات مثالية أو تربوية؛ حيث تأخذ الشخصية المحورية دور البطولة، وتُختبر عبر أحداث الرواية خصالُها الحميدة وولاؤها وشهامتها وطهرها وربما انتصاراتها، فيتجسد دور البطولة بعمق ووضوح، فتصور الشخصية بأنها مؤيدة للمبادئ الأخلاقية والقيم الإيجابية، وهذا ما ظهر في روايات جرجي زيدان التاريخية، و"عصفور من الشرق" (1938) لتوفيق الحكيم، و"قنديل أم هاشم" (1939) ليحيى حقي، وأغلب الروايات العربية قبل منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، حيث تنشد الرواية الغاية التعليمية أو التربوية.
لكن الرواية الحديثة نظرت إلى كل ذلك على أنه تزييف للواقع ونقض للحقيقة، فباتت معنية بكشف الخلل والمشكلات أكثر من أي شيء آخر، وعلى أساس هذا التحول الجذري لم يعد وصف البطولة ملائمًا للشخصية في الرواية الحديثة، إذ إن أغلب الشخصيات مهزومة وضعيفة، فيُسلط الضوء على ما تعانيه من ألم وحسرة نتيجة معطيات اجتماعية أو سياسية أو أيديولوجية تدخلها في أزمة مع الواقع وإحساس الخذلان في الحياة، وهذا ما يمكن تمثله في روايات عديدة بدءًا من رواية "القاهرة الجديدة" (1945) لنجيب محفوظ، واستمرارًا مع روايات حملت قضايا إنسانية وسياسية كبرى، مثل "موسم الهجرة إلى الشمال" (1966) للطيب صالح، و"شرق المتوسط" (1975) لعبد الرحمن منيف.
ويبدو أن تحول السياقات السياسية والثقافية - في المجمل - عند العرب في بداية السبعينيات من القرن الماضي قد ولّد أفقًا مغايرًا؛ إذ بعد الإحساس بانهيار منظومة القيم والطموحات والآمال على إثر فشل ما كان ينظر إليه على أنه مشروع النهضة العربية، بعد استقلال أهم الدول العربية وإقامة أنظمتها السياسية الجماهيرية، نتجت حالة من الازدراء للذات، سمحت بتخطي النظرة المثالية، أو الناقدة للواقع، دون أن تظهر بمظهر المهزوم والضحية، في رغبة لانتقاء صور محددة من الواقع تتجاوز سطحيته وسذاجته، وتسليط الضوء على الرذيل المبتذل بدقة متناهية خارقة بذلك المحظورات والأعراف الاجتماعية والأدبية، فأصبحت الحاجة ملحة إلى كتابة روائية مشحونة بحسٍ (مثالي – مضاد)، مشحون بشكل سلبي في تضاد مباشر مع المثالية الإيجابية، لتهتم الكتابة الروائية بتصوير الأشياء البغيضة والمرفوضة من الحياة، وتعلي من قدرها، لتظهر أن عكس المنظور قد أدخل بقصد لتجاوز سذاجة الواقع ونظرة الاستسلام البلهاء للحياة.
لقد أنتج ذلك تعديلاً جوهريًا على مفهوم البطولة في الرواية، فظهر ما يمكن تسميته بـ"البطل المضاد"، وهو شخص غير مستقر، ذو طبيعة متحولة، انتهازي يستغل الظروف لمصلحته الذاتية، لا يمكن التنبؤ بسلوكه، وليس له موقف محدد، ويعيش حالة صراع مستمر بين مشاعره الداخلية وما يراه مظهرا كاذبا وخادعا في المجتمع، لا يعترض على انهيار القيم، ولكنه يرى أنه يمثل بسلوكه المتصف بالخسَّةِ الشجاعةَ والبطولةَ، وبذلك فهو شخص مفكك، ولا يمكن وصفه بالانتماء، كما أنه ليس شخصية غير منتمية، هذه الحالة من التمزق تمثل سبيلاً آخر للروائي في كشف التفكك والانحلال في المجتمع، فضلاً عن أنه قد يقوم بأفعال يمكن أن توصف بالشهامة لا من أجل قيمة مطلقة، ولا من أجل أن يحظى باحترام ما، لكنه دومًا متورط في حالة من التفكك والنزعات الفردية المتناقضة.
وقد كان من أبرز النماذج الروائية التي تمثل نمط (البطولة المضادة) ما كتبه الروائي المغربي محمد شكري في سيرته "الخبز الحافي" (1972)، و"الشطار" (1992)، وقد وصف علي الراعي هذه التجربة بأنها تمثل الرواية الواقعية الاحتيالية في الأدب العربي الحديث، وصنفت على أنها رواية بيكارسكية أو رواية شطارية، وقد عرض فيها محمد شكري سيرته الذاتية بأسلوب روائي ذي خصوصية؛ فصور ما كان يعانيه هو وأبناء جيله من فقر وجوع وجهل، وما عاناه من ظلم وإهمال في أنظمة الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والتعليمية إبان الاستعمار الإسباني والفرنسي للمغرب، فنقل نقلاً صريحًا ما كان يعانيه أبناء جيله من المهمشين والمشردين من بؤس واحتقار، وما كانوا يمارسونه في حياة التشرد من إدمان على الخمر والجنس والحشيش، معبرًا عن ذلك تعبيرًا صريحًا فجًّا دون أن يحفل بأي قيمة، وكأنه بهذا التصريح والتكشف يقدم بيانًا يفضح فيه الأنساق والأنظمة التي تسيطر على واقعه، محققًا بذلك بطولته الخاص في الردّ على هذا الواقع المتردي.
وقد ظهرت كتابات روائية عدة في الأدب العربي مثلت هذا المفهوم من البطولة المضادة، فاهتمت بحياة المشردين والمسحوقين، لعل من أبرزها: ما قدمه خيري شلبي في روايتيه: "وكالة عطية" (1993)، و"الشطار" (1980)، ومحمد هرادي في روايته "أحلام بقرة" (1988)، والعربي باطما في روايتيه: "الرحيل" (1995)، و"الألم" (1998).
إن الرؤية التي تجسدها فكرة البطولة المضادة في الكتابة الروائية تتمثل في تقديم رؤية معقدة جدًا للواقع، وهي في النهاية، تؤمن بأن أفرادًا مسؤولين عن الفساد الاجتماعي والثقافي الذي بدوره يفسد أفرادًا آخرين في عملية مسببة للانحلال لا يمكن إيقافها إلا بعزائم بطولية، وبعرض هذه العملية التي بها تحدث عدوى الفساد، فإن هذا النوع الأدبي يدعو إلى مقاومتها ورفضها.