لم يكن هذا السؤال يُلح عليّ، والحقيقة أنني لا أزعم أنني أملك إجابة جاهزة أو يقينا لكنني في المقابل أزعم، بل أكاد أجزم أنك لو طرحت هذا السؤال على السيسي نفسه، فإنه لن يجيب مباشرة، إنه سيتلعثم ويرتبك وقد يتعرق كما حدث في مقابلة قناة CBS الإخبارية. قد يندفع مؤكدا حقه في الحديث متى وأنَّى شاء، وأنه شاعر بالناس يتواصل معهم لطمأنتهم، ولفت انتباههم إلى الواقع الجديد المتخلق، والمستقبل المشرق.
وكعادته سوف يستهل بكلمتين كبيرتين التقطهما من حديثٍ هنا وبرنامجٍ هناك، ومن إحدى دورات إعداد القادة في القوات المسلحة، قد يكون أستاذٌ جامعي في الاقتصاد والسياسة ألقاها على مسامع ضباطٍ تمكن منهم الملل تماما، يملؤون الصفوف لا طلبا للعلم أو شغفا بالمعرفة، وإنما لأن نجوما ونسورا تلتمع في مخيلتهم، وينتظرون أن ترتص على أكتافهم.
مقابل ذلك، فهم على أتم استعداد لفعل أي شيء منصاعين للأوامر، ثم لن يلبث أن يرتجل كمن يفاصل على كيلو طماطم أو خيار في سوق الجملة. بطبيعة الحال ذلك كله حوارٌ افتراضي يحاكي ذلك العالم، والواقع الذي لا نرى سواه يخلقه السيسي، فدون الوصول إليه وطرح أسئلةٍ حقيقية دون إعداد وموافقة مسبقة، أسئلة بسيطة، ولكن في الصميم عن سياساته ودوافعه، دون ذلك جحافل من الجنود المدججين بالسلاح وضباطٌ من أجهزةٍ عديدة ومعتقلاتٌ وتعذيبٌ ورصاصٌ غزير.
ليظل السؤال ماثلا، يلح عليّ وعلى كل من لم يزل يهتم بتحركاته من المواطنين خارج الأجهزة المعنية بتأمينه، فهو يرتحل من مؤتمر للشباب (صار طقسا سنويا مملا) إلى افتتاح مجمع للأسمدة الفوسفاتية في العين السخنة، إلى أسيوط ثم إلى قاعدة محمد نجيب العسكرية في الساحل الشمالي، يعدنا بمستقبل مشرق، وبالعجب الذي لا نراه في حقيقة الأمر إلا منه وفيه، ولعل أكثر منظر فكاهي يثير العجب بالفعل، ويختزل الواقع في ظله، حين يتحفنا بشريط مسجل له يقود دراجة في شرم الشيخ مثلا، فينطلق طبالو النظام، بإيعاز مباشر بالطبع، لينادونا ويستحثونا على ترك وهجر السيارات والحافلات والاستعاضة عنها بقيادة الدراجات، لما لها من فوائد صحية لا تحصى، وتخفيفا للزحام وحفاظا على البيئة، دون أن يتفضل جهبذٌ فيدلنا ويشير إلى شارعٍ في قلب القاهرة لن أقول يصلح لقيادة الدراجات، بل به مجرد رصيف ممهد ومستو يصلح للسير.
لكن لا بد أن للسيسي دافعا أو دوافع للاستمرار في الحديث، «عمال على بطال» كما نقول في مصر، أي دون توقف أو بوادر قد توحي بأن الملل ربما أوشك على التسرب إليه (رأفة من الله بنا) أو أنه استكفى، ولما كنت قد انسربت في طرق التحليل حتى وصلت إلى أن كثيرا مما نراه ونعايشه تقف وراءه أسبابٌ سيكولوجية عميقة، (مع إقراري بخلفياتها الاجتماعية الاقتصادية)، فلو أن لي أن أختار أو أراهن على سبب لهذه «المكلمة» المستمرة التي ينصب السيسي سرادقها، فسوف أختار تكوينه النفسي ورؤيته للعالم ودوره فيه.
لكي نفهم لا بد أن نرى ذلك الضابط المجهول بالنسبة للجمهور، جل ما يتمناه ويحرص عليه هو رضا رؤسائه، لكيلا يطير في حركة ترقيات، قبل أن يصير لواء وربما جمح به الطموح ليرى نفسه قائد سلاح مهما، وربما جيش من الجيوش كالثاني أو الثالث أو قائدا للمنطقة المركزية مثلا، بما لكل رتبة ومنصب من تلك مزايا ونفوذ ومكافآت مالية سخية نسبيا في بعض الأحيان. ذو نشأة دينية محافظة، محدود الثقافة والخيال، صموت لأن الكلمة تحسب والأنفاس تحصى، والكل يتبصص على الكل في الليالي الطويلة في الثكنات النائية الموحشة. ينبغي ألا يعرف أحد ما يدور في رأسه، فليشترِ وليحجم عن البيع لكي يصل. أكبر خطيئة هي إغضاب قائده أو أن يُشتم في كلمة أو إيماءة أو نظرة عدم امتثال أو شبهة اعتراض. وقد نجح ذلك الأسلوب فأوصله إلى قيادة المخابرات العسكرية، التي يخشاها الضباط ويحسبون لها ألف حساب، ولعله هنأ نفسه فقد أبلغه الصمت والتفاني حد الانسحاق في إطاعة الأوامر، إلى منصب بهذه الأهمية، ولعله منّى نفسه بتقاعد مريح، حيث يتولى رئاسة شركة من تلك التابعة للجيش، أو المخابرات العسكرية كشركة سيناء للغوص أو ما أشبه، وإذا بالحظ أو القدر يلعب لعبته، فتندلع ثورةٌ شعبية فيجد نفسه في ذلك الدور المحوري إبانها، ثم فرس الثورة المضادة التي رفعه موجها لينقلب على رئيسه، وها هي جوقة الطبالين والأفاقين والخشداشية تلتف حوله وتنفخ من ذاته التي خرجت من الظل الكئيب المعتم إلى دائرة الضوء المبهر، فيتم الاحتفاء بكل كلمة كما لو كانت فيضا إلهيا أو كشفا أو وحيا.
مسكين الرجل، فقد استولت أوهام العظمة على رأسه وتمكنت منه، يضاف إليها تصوراتٌ بالمهمة الرسولية الملقاة على عاتقه وجرفته الرغبة في التعويض عن ضعة الشأن وعقود الصمت. أما وقد أُعطي ميكروفونا وأحكم قبضته على مفاصل الدولة الأمنية، فأسكت الكل بالبطش السريع المفرط غير المتناسب مع طبيعة الحدث، وإزاء أبسط همهمة احتجاج، فمن الذي يملك أن ينصحه بالاقتصاد في الكلام؟
الطغيان والتسلط ليسا وقفاً على الأذكياء وأن محدودي المعرفة والأغبياء قادرون على العنف
أجل، لا أرى في الصميم من طق الحنك أوفر من الرغبة في التعويض. أما اذا استحضرنا الفيلسوف والفيزيائي باسكال، الذي كتب ما معناه أن أكثر الناس حديثا عن الفضيلة هم مفتقدوها، فإن سببا رئيسيا وراء الحديث المتصل عن المستقبل المشرق والإنجازات، هي المعرفة أو الشعور العميق بأن كل ذلك لا يعدو أوهاما وتخرصات للاستهلاك المحلي، فهو والطبقة التي يمثلها ذوو انحياز واضح لا شك فيه، ولا تذبذب لرأس المال والدولة القوية، ويرون أن جذب الاستثمار هو الكفيل مستقبليا بحل المشاكل المزمنة، فهم ماضون في تأمين الدولة والنظام ومصالحهم، فمن ينجو ويطفو فهنيئا له، ومن يغرق ويبتلعه مستقبل الفقر خارج أسوار العاصمة الجديدة، والمقر الصيفي الجديد فذلك قدره، ولا عزاء له، وما السيسي على ذلك إلا مسوق للجمهور الأوسع عن طريق الإلحاح مشروعا معاديا، بل متعارضا مع مصالحهم الطبقية مباشرة، ويسعى إلى جبلهم على تحمل التكلفة والتضحيات بمزيج من الترهيب وشحذ الحس الوطني لطمس المضمون الاجتماعي والطبقي.
بعيدا عن الملل من الأحاديث المتكررة، فلا شك أن العجب الذي يعدنا به حاصلٌ وواقع في الانفصام بين الواقع الرث الذي يعيشه الناس من تدني الخدمات وسعار الأسعار وارتفاع الدين الخارجي والفشل الأمني في التعامل مع الإرهاب، رغم إرهاب الحكومة وتلك الوعود والمشروعات التي يتحدث عنها السيسي والمسؤولون. كما أن تلك الحقبة ستعلم الناس كثيرا من الدروس آجلا أو عاجلا، وعلى رأسها أن الطغيان والتسلط ليسا وقفا على الأذكياء، وأن محدودي المعرفة والأغبياء قادرون على العنف.
عن صحيفة القدس العربي اللندنية