يعود اكتشاف أعمال ابن خلدون الفكرية، الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي، وترك نظرية في التطور الاجتماعي، ما زال يعاد تثمينها، وقد سماها الغربيون أول تفسير لا ديني للتاريخ، إلى المستشرق ويليم ماك كوكن سلين، الإيرلندي الفرنسي، في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
ومنذ ذلك الاكتشاف، ومع تدفق عرب الشرق إلى أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بدأت أعمال ذلك المفكر تأخذ طريقها إلى الثقافة العربية ترجمة وتعليقا، من وقتها كُتب كثير في شرح المقدمة، التي توجد اليوم نسختها الرئيسية في مكتبة الإسكوريال في مدريد.
نظرية ابن خلدون في تفسير التاريخ كما قرأتها بعين ثاقبة، أن هناك تعاقبا في إقامة الدول وأفولها بين ما سمتهم المقدمة «أهل المدر» أي أهل الحضر، سكان القرى الكبيرة والمدن، وبين أهل «الوبر» الأعراب المتنقلون طلبا للماء والكلأ، أو من فرّق بينهم بعد ذلك كثير من الدارسين، أي بين «العرب» سكان القرى «القارة» و«الأعراب» سكان الصحراء أو ما جاور المدن. وجد ابن خلدون أن إقامة الدولة من قبل أهل المدر (بناء بيوتهم من قطع الطين اليابس) سرعان ما تتآكل عصبيتهم على مر الزمن، ويدخلون فيما سماه عيش «الترف» فتضعف دولتهم ويأتي من الصحراء من هم أشد عصبية (تماسك اجتماعي) كي يقيموا دولة جديدة! لقد عاش ابن خلدون مرحلة مضطربة في تاريخ العرب الوسيط، شهد تراخيا ثم اندثار الحكم العربي في الأندلس، كما شهد سقوط بغداد وخواء دمشق، وشتات الأمة في دويلات صغيرة متنافرة في المغرب العربي.
لم يقبل معاصرو ابن خلدون تفسيره للتاريخ ذاك، كما لم يقبل ولا يقبل أي معاصرين لأي أفكار جديدة، سواء في التاريخ الغربي الطويل أو الشرقي، فقد اتهم بالزندقة والخروج عن المألوف، إلا أنه ترك لنا نظرية ما زال كثيرون يرجعون إليها لتفسير الظاهرة الاجتماعية، بل يستشهد ببعض أقواله من لا تتوقع أن يستشهد بها، مثل بورس جونسون رئيس وزراء بريطانيا، وأخيرا دونالد ترمب!
العامل المؤثر في عمل ابن خلدون والمفهوم المفتاحي هو الترف، الذي يصيب أهل «المدر» فيكون مقدمة لخواء دولتهم، لقد لاحظ بوضوح العوامل الثلاثة وتفاعلها فيما بينها، وهي «المدر والوبر والترف» في تفاعلها تصبح هناك صيرورة اجتماعية سياسية. لم أكتب ما تقدم كي أعرض لفكر هذا المفكر. أكتب معاصرا، أنه عندما تختل المعادلة التي لم يكن ابن خلدون يفكر فيها حيث لم يعش عصرنا، بأن يتفاعل الترف مع أهل الوبر، يصير المجتمع هجينا، وتظهر التأثيرات السلبية، حتى مع انقضاء فعل التداول الذي ذكره ابن خلدون بين المدر والوبر. نحن اليوم أمام تطور جديد، وهو علاقة أهل الوبر بالترف، أو البعض يسميهم أهل «البداوة»، و«البداوة» ليست نقصا في الناس، إنما توصيف لما يقومون به من أعمال، وسماهم القرآن الكريم الأعراب. لديّ عدد من الشواهد في علاقة الترف بأهل الوبر، وكيف بإمكانها إفساد المجتمع في يومنا هذا، وقد لا تكون تلك الشواهد تمثل ظاهرة منتشرة، إلا أنها هنا معنا، وربما تتكاثر، ويجدر أن نشير إليها، وأنا هنا ألفت النظر إليها، ولكن ليست لديّ حلول قاطعة لمعالجة مثالبها، الحلول سوف تأتي من مناقشة تلك الظواهر، هي اليوم تُسمى أسماء مختلفة، منها الإسراف، ومنها التبذير، ومنها الإنفاق البذخي.
منذ أسابيع، دار بين الناس شريط على وسائل التواصل الاجتماعي لسيدة في تقديري من «أهل الوبر والترف معا»، تقول إنها وقفت أياما متعددة أمام باب المتجر الذي يبيع الأحذية، وكان الدخول إليه بأرقام توزعها عاملة المتجر كل صباح، وعند نفاد تلك الأرقام وعدم حصول الجميع على الأحذية، فعليهم أن يعودوا في اليوم التالي، ثم تعرض للمشاهد ذلك الحذاء الذي فازت بشرائه، بذلك الثمن الباهظ!
الفكرة الشعبية تتحدث عن «الماركات»، أي بيوت الموضة الكبيرة، وكيف يتهافت عليها أبناء طبقة متوسطة، أو أقل، من أجل المظهر الكذاب، وأيضا تتراكم ديونهم الشخصية، التي أصبح الحديث عنها معلنا، استحسانا لخرافة أن المجتمع يثمن الفرد بما يلبس في رجله، أو يعلق على يده. الحقيقة أن الإنسان هو ما يختزن في عقله معرفة، وبقدر ما يفيد مجتمعه، لا ما يلبس على يده أو يحمل! تدفع تلك الظاهرة إلى تدافع كثيرين، وأيضا كثيرات، إلى التشبث بالحصول على تلك الماركات، حتى لو كان بهم عوز وحاجة، وقد ينتج عن ذلك كثير من الشرور الاجتماعية، وربما الأخلاقية أيضا، زد على ذلك تلك الظاهرة العجيبة التي تجتاح مجتمعاتنا اليوم، والتي تسمى (الفشنستات) Fashionista وهم من كلا الجنسين، يقومون بالترويج لبضائع استهلاكية أو لخدمات معينة، معظمها ثانوي، وبعضها حمقاء، حتى أصبحت (الفشنست) تكاد تصبح صناعة تراكم ثروات على حساب الجهلاء! وتستحوذ على عقول طائفة من الشباب والشابات، من الملابس إلى العطور، حتى رموش العين. كثير منهم ومنهن علامة للتفاهة في المنطق وعنوان للابتذال، مستفيدين مما يحيطهم من جهل.
الترف مذموم في تراثنا الإسلامي، كذلك «الأعراب»، أي التصرف بجهالة؛ حيث ذكر التعبير في القرآن الكريم 10 مرات، 9 منها تأنيبا أو ذما، والمقصود هنا ليس البشر بحد ذاتهم، ولكن طريقة فهمهم لما حولهم وتصرفهم السلوكي على ذلك الأساس، إلى درجة أن الإمام مالك له فتوى بعدم قبول شهادة الأعرابي في حضري (من السكان القارّين) المنتجين. تراثنا حثّ على الإنتاج والاقتصاد والتآزر والإيثار والتحضر الفطن.
أن يُعالج مجتمعنا من تلك المظاهر الدالة على «الترف والبطر مقرونا بالجهل»، هو أولوية للإعلاميين والمربين وكثير ممن يكتبون. حتى الآن لم يتبلور تيار ثقافي لنقد تلك الظاهرة وشرح ضررها، لما تسببه للاقتصاد من وهن، وللنسيج الاجتماعي من زيف وخواء، حيث تتغلب المظهرية على المخبرية، وتضفي على المجتمع صورة مزيفة من الرياء، إلى درجة لجوء البعض تحت هذا الضغط الاجتماعي إلى الحصول على «ماركات مقلدة». الأمر الذي جعل من بعض دول أوروبا تجرم حامل تلك الماركات، وتضعه تحت طائلة القانون!
ابن خلدون جاء في مرحلة انحطاط عربي في العصر الوسيط، ويبدو أن ذلك الانحطاط قد ساهم فيه بقليل أو بكثير ذاك الترف المذموم من أهل المدر، والظاهرة المعاكسة التي نعيشها في هذا العصر تصيب كثيرا من أهل الوبر أو القريبين منه. تلك المفارقة التي لم يقلها ابن خلدون، وعلينا التفكير فيها، لما لها من أثر جدّ سلبي على مجتمعاتنا!
آخر الكلام
لم يعد النقاش في عالمنا العربي هو النقاش الذي يسود العالم من تنمية وصناعة وتقنية. تمحور النقاش في الغالب عن ساعة الفلاني وفستان الفلانية!
عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية