لماذا يحتاج القيام بإصلاحات سطحية محدودة إلى إراقة دماء المطالبين بها؟ ولماذا التفريط بدماء الأبرياء من أجل بقاء «الأقوياء». ولماذا يحتاج بقاء أي نظام إلى التضحية بمقدسات البلاد ورهنها بإرادة قوى خارجية؟ ولماذا يرى العالم أن الأمن والاستقرار يتحققان بحفظ حقوق البشر ومشاركتهم في الحكم والإدارة، بينما يرى حكام البلدان العربية والإسلامية عكس ذلك؟
تساؤلات مشروعة ضمن محاولات استيضاح حقائق الوضع العربي، خصوصا في الجزيرة العربية. وثمة تساؤلات أخرى: لماذا يحتاج أمن الحكم السعودي للتسبب بأكبر كارثة إنسانية معاصرة في اليمن؟ ولماذا الحاجة لاستقدام القوات الأجنبية إلى مياه الخليج بعد ثلاثين عاما من استدعائها لشن أكبر حرب تكنولوجية في العصر الحديث، أحدثت من الشروخ ما لم يحدثه أي خلاف آخر؟ وهل يستقر أمن أي نظام بحصوله على دعم سياسي وأمني أجنبي إذا كان شعبه مقموعا؟ وأخيرا: إلى متى سيظل المناضلون الذين تصدروا المطالبة بالإصلاحات في الجزيرة العربية في السجون وطوامير التعذيب؟
لقد أصبحت الحسابات السياسية مقلوبة، ولم يعد للتخطيط الاستراتيجي مكان في المشروع السياسي لأنظمة الاستبداد والقمع. وثمة إدراك بأن «رؤية 2030» لا تملك من مقومات النجاح كثيرا، خصوصا بعد اتضاح نمط الحكم المفروض على الجزيرة العربية بعد الانقلاب على الموروث الاستخلافي من قبل الأمير الشاب، الذي أصبح الحاكم الفعلي للبلاد. هذه الرؤية المتوازية مع مشروع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، المعروف بـ «صفقة القرن»، إنما هي عنوان فضفاض لا يملك مقومات النجاح لسبب بسيط؛ أنها تنطلق من الشعور الوهمي بالعظمة من جهة، واستبعاد الآخرين من جهة ثانية، وعدم انتمائها إلى مشروع إصلاحي شامل يهدف إلى تعبئة الشعب إيجابيا، لكي يكون له دور في تنفيذها. وفي مجال بناء الدولة والحضارة، لا مجال للخيال الواسع والآمال العريضة غير المدعومة بالوسائل العملية المناسبة في مجال بناء الحضارة أو النهضة بالشعوب.
أعلنت الرياض مؤخرا أنها ستجمد قانون ولاية الرجل على المرأة في مجال السفر، أي إن من حق المرأة السفر من دون اصطحاب أحد المحارم، ولكن ولاية الرجل ستستمر في مجال التقدم لوظيفة أو استصدار جواز سفر. هذه المطالب طرحتها نساء بطلات ضحين بحريتهن من أجل الأخريات.
وستسجل صفحات النضال التحرري أن مناضلات مثل لجين الهذلول ونسيمة السادة و…، نطقن في بلد يعاقب من يتكلم بالسجن وقطع الرقاب. تصدرن المشهد السياسي والحقوقي بعد ضرب ثورات الربيع العربي، ولم يخشين ما ينتظرهن من قمع واضطهاد. هذه الشجاعة نجم عنها أمران: أولهما إجبار الحكم على الاستجابة لبعض مطالبهن (قيادة السيارة وتخفيف قانون ولاية الرجل)، وثانيهما دخولهن السجن وتعرضهن للتنكيل الرهيب. ووفقا لبيان أصدرته منظمة العفو الدولية الشهر الماضي، فقد قضت السيدة أنيسة السادة عاما كاملا وراء القضبان بسبب نشاطها الحقوقي المشار إليه. والأخطر من ذلك أنها منذ خمسة أشهر تعيش في زنزانة انفرادية معزولة عن العالم وعن أطفالها الثلاثة وزوجها. وقبل أسبوعين، نقلت فجأة إلى الرياض دون إخبار أهلها، الأمر الذي أرعبهم؛ لأن تلك الخطوة تتضمن في أغلب الحالات قطع رقاب المعتقلين. يضاف إلى ذلك أن المعتقلات عامة ما زلن يتعرضن للتنكيل تارة بمنع الزيارات العائلية، وأخرى بالحرمان من العلاج والدواء، وثالثة بالتلاعب بمشاعرهن ونقلهن بين الحين والآخر لزنزانات انفرادية، وتهديدهن بمزيد من المعاملة الحاطة بالإنسانية.
هذه التضحيات هي التي دفعت ولي العهد السعودي للإقدام على بعض الخطوات التي يمثل القليل منها تطورا إيجابيا، ويمثل تحديا لثقافة الجزيرة العربية وأهلها. وثمة تساؤلات عن مدى واقعية افتراض أن ولي العهد السعودي الذي قاد انقلابا أبيض داخل البيت السعودي، وقضى على أعراف مضى عليها قرابة القرن، وتمثل عصب الحكم السعودي. فالرجل الإصلاحي لا يمكن أن يفعل بمعارضيه ما فعله محمد بن سلمان بشخص غير معاد للحكم مثل جمال خاشقجي. نجم عن هذه الجريمة توجيه أصابع الاتهام لابن سلمان نفسه، ولصقت به تهمة تأدية دور محوري في العملية التي هزت العالم عندما حدثت في تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي. حتى تلك اللحظة، لم يكن هناك ما يشير إلى عزم الرياض على القيام بإصلاحات سياسية وإدارية تذكر. ولكن بعد أن انقلب الرأي العالم العالمي ضده، عندما ثبت ضلوعه في الجريمة المذكورة، وجد محمد بن سلمان نفسه مضطرا للإقدام على ما لم يكن بالحسبان. فقد بدا الحديث عن منح المرأة بعض الحقوق مع الإبقاء على اللاتي طالبن بها في السجون. ولكن الأخطر أنه اتخذ قرارا بما يسميه الغربيون «تحديث» أوضاع أرض الحرمين. ولكن ما مدى هذا التحديث وأفقه؟ لعل الأبرز في هذه الخطة فرض أنماط من الممارسات الاجتماعية غير المعهودة في الجزيرة العربية، فإذا به يسعى لفرض ممارسات مفرطة في الليبرالية، خصوصا مدينة جدة. هنا انتشرت المراقص والحوانيت ودفعت المرأة نحو ممارسات حياتية خارجة عن الأعراف الاجتماعية والدينية. وبموازاة ذلك، تعمقت سياسة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، وذلك بدفع الآخرين لتصدر المشهد، كما فعلت حكومة البحرين مؤخرا.
في ضوء هذه الحقائق وغيرها، يمكن الزعم بأن التحالف الخماسي الذي يتألف من السعودية والإمارات ومصر والبحرين و«إسرائيل»، يواجه حقبة صعبة قد يعتريها التفكك والاختلاف الشديد لأسباب شتى. فالموقف الأمريكي لا يمكن اعتماده كرأس مال؛ نظرا لانطلاقه أساسا من الرئيس الذي يتقلب في مواقفه وتوجهاته. فهو ينظر إلى دول مجلس التعاون مصدرا للمال الوفير وأداة لتنفيذ المشروع الأمريكي في المنطقة، ومن أهم خصائصه حماية الكيان الإسرائيلي. وفي الأسبوع الماضي، أقر الرئيس الأمريكي صفقات مع دولة قطر، الأمر الذي أزعج حكومة الرياض كثيرا.
ومع ذلك، فإن ترامب يواجه مقاومة تتصاعد حتى من داخل حزبه، بسبب إصراره على أن تكون «التغريدات» على «تويتر» المنطلق الأساسي لتصريحاته. وقد أدت قضية السفير البريطاني لدى أمريكا مؤخرا إلى أزمة داخلية داخل المؤسسة البريطانية التي تخلت عن سفيرها الذي انتقد ترامب وأداءه في مراسلاته الخاصة مع مسؤوليه بوزارة الخارجية. وما إن بدأ ترامب هجومه عليه حتى تخلت عنه حكومته فاضطر إلى الاستقالة.
هذه التصرفات مستمرة وتتحدى مشاعر النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة، خصوصا بشأن العلاقات مع السعودية وبيعها السلاح. وهناك الآن مشروع قانون يطالب بمعاقبة السعودية على انتهاكات حقوق الإنسان وينتقد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، قدمه رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي السناتور جيم ريش. ومشروع القانون هو أحدث مسعى في الكونغرس لتحميل المملكة مسؤولية الانتهاكات الحقوقية، بما في ذلك مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في اسطنبول بتركيا، والكارثة الإنسانية في اليمن، حيث تقاتل السعودية والإمارات القوات اليمنية التي أثبتت قدراتها القتالية وشجاعتها. كما أظهرت مداولات الدورة الأخيرة لمجلس حقوق الإنسان (رقم 41) عمق مشاعر الانزعاج والغضب لدى المنظمات الحقوقية إزاء السياسات السعودية التي تستهدف المعارضين دون رحمة. كما أن حربها على اليمن أصبحت مصدر إزعاج لكثيرين.
ثمة تغيرات مرتقبة يتوقع حدوثها في المنطقة بعد ما يبدو من تصدع للتحالف السعودي الإماراتي، واكتشاف تغير ملموس في ميزان القوى الإقليمي لغير صالحه. فبعد تشجيع أمريكا لمهاجمة إيران اتضحت صعوباته وآثاره المدمرة، فأحجمت أمريكا وحلفاؤها عن ذلك تحاشيا لحرب تدمر الأطراف كافة. كما أن التطور النوعي للقوات اليمنية وقدرتها على إحداث توازن عسكري نوعي مع التحالف السعودي الإماراتي، أصبح حسم الحرب عسكريا مستحيلا، وأصبح على السعودية البحث عن حل سياسي غير مضمون النتائج. وربما استعادت الإمارات شيئا من توازنها بسحب قواتها من اليمن وتخفيف حدة الصراع مع إيران، ولكن ذلك لن يؤدي إلى أمن استراتيجي ما لم تحل المشاكل داخل مجلس التعاون الخليجي نفسه، سواء بين الحكومات والشعوب أم بين الحكومات نفسها. وهذا هو المدخل لأي مشروع يهدف إلى حفظ أمن الخليج وتجنيبه الصراعات المسلحة غير مضمونة النتائج لأي من الأطراف. أما السعودية فقد أصبح واضحا أن سياساتها الحالية ستجرها والمنطقة إلى الكارثة.
عن صحيفة القدس العربي اللندنية