منذ العام 1958، ظلت فكرة الدستور/القانون في العراق مجرد سطر يكتبه القابضون على السلطة متى شاؤوا، ويمحونه متى شاؤوا أيضا! وظلت فكرة إنفاذ الدستور/القانون مرتبطة بعوامل متعددة، ليس بينها فكرة علوية الدستور أو سيادة القانون! كما لم يكن أي منهما، بالنسبة للسلطات المتتالية التي حكمت العراق بعد هذا التاريخ، سوى أدوات تستخدمها السلطة لمصالحها المباشرة، ولم تشكل تمظهرا من تمظهرات النظام السياسي، أو عنصرا في نسق متكامل من الأحكام.
وقد أنتج هذا التاريخ
الطويل من عدم احترام الدستور/القانون، على مستوى السلطة، نوعا من الثقافة والسلوك
السياسيين، تجليا بأوضح صورهما في مرحلة ما بعد 2003.
في
اليوم التالي لسيطرة تنظيم الدولة (داعش) على الموصل، تحديدا في 11 حزيران/يونيو
2014، أصدر مجلس الوزراء العراقي القرار المرقم 301، الذي خول رئيس مجلس الوزراء
بتنظيم «صفوف المتطوعين وصرف رواتبهم وتجهيزاتهم»! من دون أن يوضح القرار من هم
هؤلاء «المتطوعون»؟ ومن أين ستصرف رواتبهم وتجهيزاتهم العسكرية؟ ثم أصدر المرجع
الشيعي الأعلى، السيد علي السيستاني، بعد يومين من ذلك، فتوى «الجهاد الكفائي»،
التي نصت على أن يتطوع المواطنون الذين لديهم القدرة على حمل السلاح «للانخراط في
القوات الأمنية».
وقد كانت هذه الفتوى فرصة تاريخية بالنسبة للسيد نوري المالكي،
رئيس مجلس الوزراء حينها، من أجل شرعنة الفصائل المسلحة التي أعاد إنتاجها بداية
من منتصف عام 2012، في إطار صراعه مع التيار الصدري، والتي تكرس وجودها العسكري
لاحقا نتيجة للأزمة السورية أولا، من خلال مشاركة بعض هذه الفصائل في الحرب إلى
جانب النظام السوري (كان أول ظهور لميليشيا لواء أبو الفضل العباس وكتائب حزب الله
وكتائب سيد الشهداء في سوريا، بين كانون الثاني/يناير وحزيران/يونيو من عام 2013).
ثم تكرس وجودها العسكري عراقيا لاحقا، عندما بدأت بالمشاركة في العمليات العسكرية
في مناطق حزام بغداد، دون أن يكون لها غطاء قانوني! هكذا أصدر المالكي، في يوم 18
حزيران/يونيو، أمرا ديوانيا ينتهك صراحة أحكام الدستور، باستحداث هيئة ترتبط
برئاسة مجلس الوزراء باسم «هيئة الحشد الشعبي»، ومنحها صلاحيات إدارة «الحشد» وتدريبه
وتسليحه وتوزيعه على قواطع العمليات، بمعزل عن القوات المسلحة العراقية، على خلاف
ما نصت عليه الفتوى! ولم يكن هذا «الحشد» في حقيقته سوى الفصائل المسلحة المتواجدة
أصلا.
والمفارقة
الجوهرية هنا، أن الغالبية العظمى من فصائل الحشد الشعبي لا تقلد المرجع الأعلى
السيد علي السيستاني، ومن ثم فهي لم تكن ملزمة بطاعة ما يصدر عنه، لا سيما أنها
تؤمن بمبدأ الولاية العامة المطلقة للفقيه (المعروفة بمقولة الولي الفقيه)،
وبالتالي فهي من الناحية العقائدية ملزمة بطاعة السيد الخامنئي بوصفه وليا للإمام
الغائب!
في
نهاية العام 2016، كانت هناك خطوة حاسمة لشرعنة الأمر الواقع الذي بات يشكله الحشد
الشعبي، من خلال إصدار قانون «هيئة الحشد الشعبي»، الذي جاء في ثلاث مواد فقط،
لمعالجة مسألة معقدة، تتعلق بتشكيل قوى عسكرية ذات طبيعة عقائدية ـ طائفية ـ
أيديولوجية، يصل تعدادها إلى أكثر من 130 ألف مقاتل، مع تسليح ثقيل!
ومراجعة
نص القانون المهلهل هذا، تؤكد أن الغرض الحقيقي لتشريع هذا القانون لم يكن «تقنين»
الحشد الشعبي، بل شرعنته فقط! هكذا لم يلتفت أحد مثلا إلى التناقض في متن القانون
بين أن يكون الحشد الشعبي «تشكيلا عسكريا مستقلا»، وأن يكون في الوقت نفسه «جزءا
من القوات المسلحة العراقية»!
لقد
تحدث هذا القانون عن «فك ارتباط» منتسبي هيئة الحشد الشعبي عن «كافة الأطر
السياسية والحزبية والاجتماعية، ولا يسمح بالعمل السياسي في صفوفه»، وعن تنظيمه
كتشكيل عسكري «بأركانه وألويته ومنتسبيه» خلال مدة ثلاثة أشهر. ولكن الجميع كان
يدرك أن لا شيء من هذا سيحدث! وبعد أكثر من سنتين على نفاذ القانون، أيقن الجميع
أن لا شيء تغير على الأرض فيما يتعلق بطبيعة العلاقة العضوية بين الفصائل التي
تشكل الحشد الشعبي، ومرجعياتها الدينية أو السياسية أو الحزبية على حد سواء.
بل إن
العديد من هذه الفصائل سجلت نفسها كأحزاب سياسية، ودخلت انتخابات مجلس النواب لعام
2018، بل إن تحالفي سائرون والفتح، اللذين هيمنا على البرلمان العراقي، واختارا
رئيس مجلس الوزراء الحالي، يمتلكان فصائل عسكرية ضمن الحشد الشعبي (قانون الأحزاب
اشترط عدم ارتباط الحزب «بأية قوة عسكرية»! بل وقرر سجن «كل من أقام داخل الحزب
تنظيما عسكريا، أو ربط الحزب بهذا التنظيم»، فضلا عن حل الحزب! ولكن من قال إن ثمة
علاقة بين القانون وإنفاذ القانون؟).
المتغير
الذي فرض خلخلة الأمر الواقع القائم هذا، والتواطؤ الجماعي القائم، كان الصراع
الأمريكي ـ الإيراني؛ فعلى مدى سنوات الحرب على تنظيم الدولة (داعش)، صمت
الأمريكيون عن الأمر الواقع الذي فرضه الفاعل السياسي الشيعي فيما يتعلق بالحشد
الشعبي، إذ لم يعترضوا على استخدام الحشد لأسلحتهم، وتحديدا الصواريخ المضادة
للدروع، بل وفروا الغطاء الجوي له في الكثير من المعارك! وكانت التصريحات
الدبلوماسية الأمريكية تتحدث في الغرف المغلقة عن ضرورة التمييز بين حشد جيد وحشد
سيئ، كطريقة لتسويغ هذا التعامل، حيث أصدر الكونغرس الأمريكي قرارات بفرض عقوبات
على عدد محدود من الفصائل بوصفها جماعات إرهابية (في أيار/مايو 2018، تبنى
الكونغرس مشروع قرار يصنف فيه عصائب أهل الحق، وكتائب حزب الله، وحركة النجباء ضمن
لوائح الإرهاب) وسكت عن بقية الفصائل.
تدريجيا،
ومع تصاعد التوتر الأمريكي ـ الإيراني، بدأ خطاب الإدارة الأمريكية لأول مرة، يتهم
بشكل صريح بعض فصائل الحشد الشعبي بأنها مجرد أذرع إيرانية، ونقلت صحيفة الغارديان
عن مسؤولين كبار في وزارة الخارجية الأمريكية أن ثمة فصائل في الحشد الشعبي
«مرتبطة بشكل مباشر بإيران». وقد زادت رسائل الكاتيوشا التي أطلقت على المنطقة
الخضراء، والشركات النفطية في البصرة، ثم التسريبات الأمريكية بأن الطائرات
المسيرة التي قصفت محطتين لضخ النفط في العربية السعودية، كانت قادمة من العراق،
من حدة هذا الخطاب، الأمر الذي اضطر رئيس مجلس الوزراء عادل عبد المهدي إلى إصدار
أمر ديواني جديد، بتاريخ 1 تموز/يوليو 2019، يهدف إلى محاولة تقنين الحشد الشعبي
مرة أخرى!
ولكن
مراجعة هذا الأمر، الذي لم يأت بجديد عمليا، تكشف عن واقع مختلف تماما؛ فعندما
يتحدث الأمر الديواني الأخير الذي أصدره رئيس الوزراء حول ارتباط الحشد الشعبي
بالقائد العام للقوات المسلحة حصرا، وعن قطع وحدات الحشد الشعبي أفرادا وتشكيلات
أي ارتباط سياسي أو آمري من التنظيمات السابقة في الحشد الشعبي، وعن إغلاق جميع
المكاتب الاقتصادية أو السيطرات أو التواجدات أو المصالح المؤسسة خارج إطار الشكل
الجديد لعمل وتشكيلات الحشد الشعبي، فنحن هنا أمام اعتراف رسمي بعجز الدولة عن
إنفاذ قوانينها أولا، وبأن الحشد الشعبي قد أصبح أمرا واقعا يتجاوز الحالة
العسكرية ليشكل ذراعا سياسية واقتصادية أيضا!
ومن
دون الذهاب إلى التخمينات هذه المرة، كان واضحا من خلال رد كتائب حزب الله، وهي
فصيل من فصائل الحشد الشعبي يمول من الدولة، والذي يفترض أنه «جزء من القوات
المسلحة»، أن محاولة السيد عادل عبد المهدي الأخيرة لا يمكن لها أن تنجح هي الأخرى
في ضبط وتقنين الكثير من الفصائل التي ليس لديها تمثيل سياسي، والتي تبدو أكثر
ارتباطا عقائديا وتنظيميا بالحرس الثوري الإيراني. بل إن طبيعة الرد، ولغته، يثبت
ما كنا نقوله دائما، من أن الحشد أصبح قوة عسكرية، لديها عقيدتها وأيديولوجيتها
ومصالحها وارتباطاتها، وأنها لا تلتزم بما تقرره الدولة العراقية بسلطاتها الرسمية
المعترف بها!
بالتأكيد،
لن تخرج هذه المواجهة إلى أبعد من المواجهة الرمزية، ولكن الجميع يعلم يقينا أن
انزلاق المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران إلى صدام عسكري مباشر، سيجعل العراق،
لا محال، موضع الطلقة التالية!
عن صحيفة القدس العربي اللندنية