كثيرا ما اعتبر الزعماء العراقيون في كواليسهم، أن التجربة الإيرانية
في الحكم وإدارة الأزمات والسيطرة على مخرجات الشارع، هي التجربة المثالية التي
يمكن استنساخها في العراق، حتى أن تجربة "الحرس الثوري" الذي يتم تعريفه
بأنه "دولة الثورة" الموازية لـ"الدولة الإيرانية التقليدية"،
نظر إليها البعض باعتبارها نموذجا ناجحا، وتم الحديث مرارا عن "الحشد
الشعبي" كنسخة قابلة للتطبيق من ذلك النموذج.
ومن
دون المرور إلى تقييم التجربة الإيرانية بالمجمل، يمكن الإجابة ببساطة عن تساؤل
لطالما يعاند في طرحه بعض المتحمسين للتجربة الإيرانية، مفاده: لماذا لم تتحطم
الدولة في إيران بعد أن أنتجت دولة "الحرس" الموازية؟ ولماذا يتم الحديث
عن تجربة المجموعات المسلحة العراقية التي كان لها دور بارز ومميز في الحرب على
تنظيم "داعش" الإرهابي، بأنها تهدد بتكوين "دولة داخل الدولة"
وأن رغبتها في التحول إلى قوة اقتصادية وسياسية واجتماعية جنبا إلى جنب مع القوة
العسكرية، يهدد كيان الدولة العراقية؟
واقع
الحال أن المرشد في إيران هو الزعيم الأعلى للدولة الإيرانية ولدولة
"الحرس" على حد سواء. ولهذا، فإن صلاحياته وآليات عمله تضبط سلوك
الجانبين وحراكهما، كما أن ميوله قد تدفع إلى تقوية أحدهما على الآخر، إضافة إلى
أن وجوده في أعلى نظام الحكم الإيراني، ذي الطابع الديني والسياسي الخاص، يجعله
خارج الطرفين معا، وذلك فقط هو سبب التوازن في المخرجات السياسية والعسكرية
الإيرانية.
لكن
هذا التركيب الإيراني المعقد والخاص بإيران بصرف النظر عن تقييم نتائجه، غير موجود
في العراق، وهو غير قابل للوجود أيضا، فلا النظام السياسي الذي تأسس بعد العام
2003 وأحيط بالدستور يسمح بذلك، ولا التركيبة الاجتماعية للعراق تسمح به، ولا
تاريخ العراق الديني والسياسي والاجتماعي سواء القديم أو الحديث يحتمل ذلك.
ولهذا
تحديدا، لا يمكن الحديث بجدية عن إمكان سيطرة رئيس الوزراء العراقي على
"الحشد الشعبي" بنسخته الحالية، حتى بعد بيانه الأخير الذي أكد فيه
ضرورة إخضاع فصائل "الحشد" لسلطاته كقائد عام للقوات المسلحة، وأيضا
الكشف ضمنا عن أن قانون "الحشد الشعبي" الذي أقر في عام 2015، وكان يسعى
إلى تحويل قوى "الحشد" إلى جزء لا يتجزأ من المنظومات الأمنية، لم يطبق
أيضا كما ينبغي.
والمشكلة
في العراق ليست في عدم وجود "مرشد أعلى" يضمن التوازن بين الدولة
والدولة الموازية فقط، بل لكون "المرشد الأعلى" لبعض الفصائل العراقية
المسلحة، هو السيد علي خامنئي ذاته، وأن هذه المنظومات لا يمكنها العمل من دون
"مرشد".
وكلما
جرى الحديث عن ضرورة إيجاد آليات لتنظيم "الحشد الشعبي" والإفادة من
طاقات آلاف الشباب فيه، وكذلك رعاية عائلات الضحايا والمصابين من المنتمين إليه
وتكريمهم، ترتفع الأصوات بحدة وانفعال وأحيانا بتهديد حول وجود "مؤامرة
كونية" تستهدف "الحشد"، وتريد إزاحته. وهي (المؤامرة) تعظم الأخطاء
"الفردية" التي ترتكب هنا وهناك، على رغم أن بعضها لم يكن أخطاء بالمعنى
الدقيق، إنما تجاوزات كبيرة يعترف بها قادة "الحشد" ذاتهم، ويعزونها إلى
ما بات يطلق عليه "فصائل غير منضبطة"، وهو الأمر الذي استدعى من عبد
المهدي إصدار بيانه الأخير الذي جاء بعد توارد معلومات وأنباء أمريكية (غير مؤكدة)
عن تورط إحدى تلك الفصائل في مهاجمة السعودية، وتورط أخرى بمهاجمة شركات نفط أمريكية،
وقصف قواعد عسكرية عراقية شمال بغداد.
ولأن
التشنج هو السائد في توضيح حدود تنظيم وجود "الحشد الشعبي" وآلياته
وأدوار فصائله المختلفة، يتجنب السياسيون في الغالب الحديث عن الموضوع، ويرتفع
شعار "التضحيات التي قدمت" وهي تضحيات محترمة من الشعب العراقي، إلا إذا
كان استخدامها ليس له علاقة بتكريم المضحين، بل بفرض أمر واقع خطر على مصير الدولة.
أول
المستجيبين كان السيد مقتدى الصدر، الذي قرر حل "سرايا السلام" التابعة
له، ودمجها في الأجهزة الأمنية. وتشير المعلومات المتواترة إلى قرب الإعلان عن
ترتيبات خاصة بـ"فرقة العباس القتالية" التي يقال إنها مقربة من مرجعية
النجف، وكان لها صولات مشهودة في المعارك ضد "داعش"، فيما من المنتظر أن
تصدر قرارات واضحة، إما لتطبيق قانون "الحشد الشعبي" بحذافيره، وهو
قانون يخضع الفصائل إلى السياق العسكري للجيش العراقي، أو أن يعاد فتح هذا القانون
ودراسته لإيجاد آليات واضحة تجعل هذه الفصائل جزءا من الدولة، ولا تسمح بتكون
"الدولة الموازية".
وسواء
كانت الضغوط المتصاعدة حول العراق، أم نوازع وطنية داخلية، هي التي حركت هذا الملف
أخيرا، فالمهم أنه تحرك، والأهم أن يكون تحركه لصالح إيجاد مرجعية إدارية واحدة
للدولة في تمثيلاتها الإدارية والاقتصادية والسياسية.
عن صحيفة الحياة اللندنية