ليس الأمر كما يبدو عليه بالضبط في فهم سياق وديناميكيات التحالفات
الحكومية في العراق، والسياسة الإيرانية ليست ساذجة إلى درجة أنها سترعى تشكيل
حكومة تبعد الصدر من الواجهة السياسية، أو تضع خطوطا حمرا على العبادي أو على أي
مرشح آخر، ذلك لا يشبه أبدا طبيعة التفكير السياسي الإيراني، كما لا يشبه التحديات
الكبرى التي تواجهها طهران وتفرض عليها وضع العراق في نطاق استراتيجية الربح
والخسارة لمصالحها القومية.
ومن
البداية، يجب القول أن الضغوط الإيرانية في هذه المرحلة المبكرة لإعلان الحكومة
العراقية تتركز على تليين المواقف المختلفة، للتوصل إلى تشكيلة إذا لم تضمن إعادة
إحياء التحالف الشيعي مكتملا بالسياقات السابقة، ففي الأقل ضمان حكومة يشترك فيها
حلفاؤها، لكن كل ذلك في الشكل فقط، أما الجوهر فهو الحفاظ على سياسة عراقية مهادنة
ومتعاونة تجاه الوضع الاقتصادي والسياسي المتدهور في إيران، ناهيك باحتمالات
مفتوحة لمواجهة خطيرة مع واشنطن.
هل
تريد إيران في هذه المرحلة تحويل العراق إلى ساحة خلفية كبرى للحرب المتوقعة مع
الولايات المتحدة؟... يمكن القول أن إيران فعلت ذلك طوال السنوات الماضية، وأن تلك
الاستراتيجية تغيرت بعد عام 2014 ليس لجهة اضطرارها إلى التخلي عن دعم ولاية
المالكي الثالثة، بل لشعورها بأن موقف شيعة العراق منها يزداد عدائية، وأن مرجعا
حاسما كالسيستاني بدأ يتخذ مواقف شديدة الخطورة من نفوذها، ولأن ذلك النفوذ استمر
باعتباره سياسيا واقتصاديا فوقيا ولم يتحول إلى نفوذ اجتماعي وثقافي أبدا، وكذلك
لأن طموحات الساسة الشيعة العراقيين وأحجام مقاساتهم بدأت تتسع باتساع دولة كبرى
في المنطقة كالعراق على العباءة الإيرانية التي فصلت لهم عام 2003، فلم يعودوا
«صبيانا» يفرحون بما ينعم عليهم المبعوثون الإيرانيون من دعم هنا وهناك.
القول
أن إيران تمكنت عبر تغيير استراتيجيتها في العراق من كسب حيز من النفوذ الثقافي
والاجتماعي مختلف في طبيعته وآليات عمله عن السابق، لن يكون مجافيا للحقيقة بقراءة
نتائج الانتخابات الحالية، والدور الذي لعبته إيران في دعم جهود الحكومة العراقية
لتحرير المناطق العراقية من «داعش» كانت أهميته في الماكينة الإعلامية الإيرانية
أو المتعاطفة مع إيران أكثر بكثير من أهميته الحقيقية على الأرض، وكان لافتا أن
الاستراتيجية الإيرانية الزاحفة من تمركزها السابق، تضع ثقلها هذه المرة في تجذير
وجود أكثر عمقا في الأرض العراقية، ليس في الساحة الشيعية فقط بل في الساحتين السنية
والكردية أيضا.
هذا
الواقع لا يمكن نسفه بتعريض الوضع السياسي في العراق إلى هزة كبيرة، كحرب أهلية
شيعية على خلفية إدارة الحكومة، كما أنه واقع تأسس في ضوء وجود العبادي المتهم (من
أنصار إيران لا إيران) بأنه ينفذ استراتيجيات أميركية، وفي ضوء زحف الصدر إلى
الشارع مهددا بقلب الأوضاع السياسية عام 2016.
لا
تريد طهران لنفوذها في المنطقة أن يتقلص، وإن كانت قلقة من الحراك الأميركي
المتسارع لفتح مواجهة معها، وقد يكون النفوذ الإيراني في الخارج هو ورقة المساومة
الأخيرة التي تستخدم عندما يحين وقتها، على غرار التسوية التركية - الإيرانية في
سورية.
لكن
إدارة هذا النفوذ قد لا تتطلب حكومة عراقية بهوية إيرانية، بل قد تستدعي مرونة
أكثر لتهدئة الوضع العراقي، فواشنطن ترامب باتت تفهم جيدا قوانين لعبة لَي الأذرع
التي مارستها إيران معها طوال السنوات السابقة في بلاد الرافدين، ويبدو أنها لم
تعد تأبه كثيرا لها، ولا حتى لخسارة دورها في التحالفات الحكومية الحالية، وهي
مستعدة ليس فقط لإعادة العراق إلى «محور الشر» الأميركي لو تطلب الأمر، بل
لاستخدامه كسبب لحرب شاملة.
ليس
الأمر كما يبدو عليه تماما، وليس لدى إيران خطوط حمر في المسارين اللذين يتشكلان،
وقد يكون المسار الذي يوصف بأنه أقرب إلى طهران، هو الأضعف في قائمة الاستراتيجيات
الإيرانية في هذه المرحلة، فالأمر ليس نسخة لبنانية، بل ساحة معركة عمرها 15 سنة،
عرف فيها كل لاعب حدود تحركه، ولن يجازف بحركة مميتة.
الحياة اللندنية