لا يخفي قادة طهران قناعاتهم بأن واشنطن ليست بصدد شن حرب على
بلادهم، فهي لا تريد ولا تستطيع إن رغبت... هكذا يقول المرشد، وهكذا يردد من خلفه
قادة سياسيون وعسكريون... لكنهم في الوقت ذاته، لا يكفون عن التأكيد بأنهم أهل للحرب،
مستعدون لها، وأن واشنطن ستختبر معهم ما لم تختبره في حربيها السابقتين ضد
أفغانستان والعراق... من أين يأتي هؤلاء بكل هذا اليقين، من أين تأتيهم الثقة، وهل
هي ثقة حقا أم ضرب من ضروب المكابرة والعناد؟.
مع
الأخذ بنظر الاعتبار، أن الدولة، أي دولة، حتى وإن كانت على حافة الانهيار، ستظل
تقاوم الاعتراف بأمر كهذا، وإيران ليست خروجا عن هذه القناعة، مع أن المراقب عن
كثب للمواقف الإيرانية، يدرك أنها أبعد من أن تكون مجرد مكابرة، وأن لدى طهران
«مجموعتين» من الأسباب تكفي كل واحدة منها لتعميق الإحساس بهذا اليقين:
المجموعة
الأولى؛ وتتعلق بواشنطن، فإدارة ترامب لا ترغب في الحرب وهي غير مستعدة لها، وعام
الانتخابات الرئاسية يقرع الأبواب، والتقارير المتواترة تتحدث عن ضعف في جاهزية
الجيش الأمريكي لخوض غمار حرب جديدة، والحرب على إيران بحاجة لائتلاف دولي عريض،
لا يبدو أن واشنطن قادرة على جمعه في ظل ضعف الحماسة الدولية لخيار الحرب وعدم
قناعة مراكز دولية عديدة بصوابية القرارات الأمريكية الأحادية بالانسحاب من
الاتفاق النووي وفرض عقوبات جديدة على إيران وأخيرا شن الحرب في حال اتخذ القرار
بذلك... أضف إلى كل هذا وذاك وتلك، أن لإيران نفوذا إقليميا في عدة دول من دول
المنطقة وأقاليمها، ما قد يحيل الحرب على إيران، إلى حرب إقليمية أوسع نطاقا، يصعب
معها التحكم بمساراتها وحفظ مصالح حلفاء واشنطن في المنطقة... لكل هذه الأسباب
تبدو طهران «مطمئنة» لعدم رجحان كفة الحرب في المدى المنظور على أقل تقدير.
المجموعة
الثانية؛ وتتعلق بطهران ذاتها، فالدولة نجحت في بناء ترسانة عسكرية يصعب تجاهل
فاعليتها وكفاءتها... ولإيران حلفاء وشركاء وموالون في دول عديدة... والدولة في
حالة دفاع عن النفس، أي أنها ستخوض المعركة على أرضها، وليس عبر الوكلاء كما في
العقود الأخيرة... والأهم من هذا وذاك، أنها قد تكون معركة «الجمهورية الإسلامية»
الأخيرة، معركة الرمق الأخير لـ «دولة المركز الشيعي»...
والسياسة في طهران، وإن كانت مستقلة نسبيا عن العقيدة، إلا أنه
استقلال نسبي، فالنظام عقائدي بامتياز، وليس من السهل أن يحدث استدارة كاملة في
مواقفه، أقله بين عشية وضحاها... يكفي أن نذكر أن فتوى واحدة، عن مرجعية شيعية
عليا واحدة، حول «الجهاد الكفائي» في العراق، كانت كافية لتشكيل «الحشد الشعبي» من
أكثر من مائة وخمسين ألف مقاتل، مسلح ومدرب على أرفع مستوى، فكيف إن أجمعت
المرجعيات على الإفتاء بـ «جهاد العين» الذي هو فريضة على كل واحد وواحدة مقلديهم
ومقلداتهم، ما الذي يمكن أن يحصل في إيران والعراق وصولا للبنان واليمن ودول أخرى؟
لا
أدري إن كانت إدارة ترامب تدرك تمام الإدراك هذه التعقيدات أم لا، لكن المؤكد أن
الرئيس ترامب سيتنظر طويلا قبل أن «يرن» هاتفه الذي أودع رقمه لدى الرئيس السويسري
بانتظار أن يأتيه الصوت من طهران، طالبا الجلوس على مائدة المفاوضات... في ظني أن
هذا لن يحصل مع إدارة ترامب، أقله في ولايته الأولى، فإن قُدّر له أن يعود ثانية
للبيت الأبيض، فربما نرى تبدلا في المواقف والمواقع والأولويات، ومن يعش يرَ.
عن
صحيفة الدستور الأردنية