ما زال الفضاء السياسي الجزائري يعيش جملة من التناقضات والتحديات
وغياب استراتيجية واضحة للتعامل مع الأزمة من قبل السلطة، بعد خمسة أسابيع من
المسيرات والمظاهرات والحراك.
يبدو أن السلطة الجزائرية لم تقرأ الشارع كما ينبغي، فالخطأ الفادح
الأول الذي ارتكبته تمثل في ترشيح الرئيس بوتفليقة رغم حالته الصحية الخطيرة،
والتي لا تسمح له دستوريا وقانونيا أن يمارس السلطة. وهنا نلاحظ أن السلطة انتهجت
سبيل الاستمرار في الخطأ وتجاهل الرأي العام والشارع الجزائري.
ففي سنة 2014 كان من المفروض على الطبقة السياسية أن تقرأ الشارع
وتفكر في الرئيس بوتفليقة الذي ألمت به وعكة صحية في 2013 والذي أصبح منذ ذلك
الحين في حالة لا تسمح له بممارسة صلاحيات رئيس دولة وتدبير شؤون البلاد. فمنذ ذلك
الحين ولمدة خمس سنوات كان من المفروض على السلطة أن تفكر في الخطة "ب“ وفي
بديل للرئيس بوتفليقة.
مع الأسف الشديد استمرت الأمور على حالها وزادت الظروف الصحية للرئيس
خطورة وبقي الإصرار على أن الرئيس بوتفليقة هو الوحيد القادر على تسيير شؤون
البلاد. وفي حقيقة الأمر إن أحزاب التحالف الرئاسي لم توفق ولم تتفق على شخص يجمع
الجميع.
تواصلت الأحداث وبقيت الأمور على حالها وتسابقت القوى السياسية
الفاعلة في المشهد السياسي الجزائري على ترشيح الرئيس بوتفليقة والتمسك به كمنقذ
للجزائر. فجاءت الانتخابات الرئاسية والعهدة الخامسة وترشيح الرئيس الذي لم يقوَ
حتى على تقديم ملفه للمجلس الدستوري، لكن هذه المرة قرر الشارع الجزائري أن يقول
كلمته ويواجه الاستخفاف بذكائه وكرامته.
بدأت الأزمة، والسلطة تائهة غير جاهزة لإدارتها فلا رؤية ولا
استراتيجية ولا خطة. وهنا نلاحظ المحاولات اليائسة للسلطة للتعامل مع المسيرات
المليونية للشعب الجزائري. ففي 3 مارس جاء الإعلان الرسمي لترشيح الرئيس بوتفليقة
ومع استمرار المسيرات والمظاهرات تراجع الرئيس وأعلن أنه لا يترشح لعهدة خامسة بل
سيمدد عهدته للإشراف على الندوة الوطنية وتعديل الدستور واختيار خليفته. وهذه
محاولة يائسة تعبر عن تخبط السلطة في التعامل مع الأزمة بطريقة غير مدروسة وغير
قانونية. المبادرة برمتها غير دستورية وغير قانونية، حيث إن تأجيل الانتخابات
وتمديد العهدة الخامسة اختراق صارخ للدستور ولا يستجيب لمطالب الشارع والحراك الذي
يصر على إبعاد النظام من الساحة السياسية.
المسيرات تتوالى والأزمة تتفاقم ومستمرة والسلطة تائهة ومن كان يساند
ترشيح الرئيس بوتفليقة والعهدة الخامسة أصبح يساند مطالب الحراك وهنا دخلنا في
نفاق منظم ومنهجي. فها هو رئيس حزب التجمع الديمقراطي ورئيس الوزراء المقال يهرول
ويصرح بأنه مع مطالب الحراك، هو نفسه الذي قبل شهر كان يسبح ويطبل ويجزم أن الرئيس
بوتفليقة هو الاختيار الأمثل للمرحلة ولضمان الاستمرارية وتجسيد مشاريع وبرامج
الإصلاح والتنمية المستدامة. يأتي بعده معاد بوشارب عن حزب جبهة التحرير الوطني
ويعلن أن الحزب مع الحراك. ثم يلتحق بكل من أويحيى وبوشارب الأمين العام لاتحاد
العمال الجزائريين ويعلن كذلك أن نقابة العمال مع الحراك. والسؤال الذي يفرض نفسه
هنا هو: أين كان هؤلاء قبل شهر ولماذا لم يفكروا في الشعب الجزائري وفي الرأي
العام وفي الصالح العام خلال عشرين سنة ولماذا لم يصارحوا أنفسهم ويدركوا أن
الرئيس مريض ولا قدرة له على إدارة شؤون البلاد.
فكيف يثق الشعب الجزائري في مثل هؤلاء السياسيين الذين يغيرون
مواقفهم ومبادئهم كتغيير الحرباء لألوانها. وإن دل هذا على شيء إنما يدل على قصر
الرؤية أو انعدامها وعلى عدم التفكير والتخطيط على المدى المتوسط والبعيد. لماذا
لم يفكر هؤلاء في خليفة بوتفليقة عندما ألمت به الوعكة الصحية سنة 2013، أم إن
الأمر يتعلق بمصالح ضيقة لحفنة من الأشخاص تتستر وتستغل الرئيس لتحقيق أهدافها.
فبعد ثلاثة أسابيع من الحراك أعلن الرئيس عن إلغاء العهدة الخامسة
وتمديد العهدة الرابعة وبعد خمسة أسابيع من المسيرات أعلن قائد الأركان أحمد قايد
صالح تفعيل المادة 102. لكن الأزمة ما زالت قائمة حيث إلى حد كتابة هذه السطور لم
يجتمع المجلس الدستوري لتفعيل المادة 102 وهذا يعني أن هناك صراعا للأجنحة في
القمة وما زالت الأمور غامضة والرؤية ليست موحدة على مستوى السلطة. وهذا يعني أن
السلطة إلى حد هذه الساعة لم تفلح في إدارة الأزمة بعد أكثر من خمسة أسابيع من
المسيرات والمظاهرات والحراك. بل أكثر من هذا هل تفعيل المادة 102 وهي التي تنص
على إعلان شغور منصب رئيس الجمهورية كاف لحل الأزمة. فالواقع يقول إن تفعيل المادة
102 من الدستور الجزائري والإبقاء على المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة وتسليم
رئاسة الجمهورية لرئيس مجلس الأمة عبدالقادر بن صالح، أي إن الفريق القديم في عهدة
بوتفليقة هو الذي سيشرف على الانتخابات وهذا يعني أن الحراك لم يحقق مطلبه
الاستراتيجي وهو التخلص من النظام، لأن النظام سيجدد نفسه من جديد وسنصل إلى مبدأ
"الخروج من الباب والعودة من النافذة".
ما يعني أن الأزمة في الجزائر ما زالت قائمة، وأن المسيرات تتوالى
الجمعة تلو الأخرى. صحيح أن الشارع حقق بعض المكاسب، لكن إلى حد الآن البلد بدون
حكومة والبلد ببرلمان ومجلس أمة من العهد السابق عهد بوتفليقة عهد الفساد كما
يسميه الجزائريون. من غير المنطقي أن يشرف رجال بوتفليقة على المرحلة الانتقالية
وعلى انتخاب الرئيس القادم. ما يعني أن النظام الجزائري فاجأته المسيرات المليونية
والحراك الشعبي ولم يكن ينتظر سيناريو مثل الذي عايشه منذ 22 فبراير 2019.
ومع الأسف الشديد، وإلى حد الساعة لم ترافق الطبقة السياسية في
الجزائر الحراك الشعبي. ويقال إن الأزمة كلما طالت وكلما تأخرت تعقدت وأصبح حلها
صعبا. فإلى حد الآن لم يستجب النظام السياسي في الجزائر لمطالب الحراك وما جاء من
مبادرات – إلغاء العهدة الخامسة وتفعيل المادة 102- لا يوقفان المسيرات المليونية
ولا يكفيان لتغيير النظام الذي استمر في حكم الجزائر لمدة 20 سنة والذي بذّر ألف
مليار دولار حيث تفاقمت وزادت مشاكل الشعب الجزائري من بطالة وأزمة سكن وغلاء
المعيشة وضعف القدرة الشرائية وانتشار الفساد والبيروقراطية. فالجزائر تعيش اليوم
أزمة تراكمت أسبابها وتداعياتها لمدة 57 سنة، فبوتفليقة ومحيطه مع الأسف الشديد،
لم يفكرا في إحداث القطيعة مع جمهورية لم تستطع أن تسترشد بالحكم الراشد والعدالة
الاجتماعية والتخطيط الاستراتيجي والتنمية المستدامة.
كيف ستكون الأسابيع القادمة؟ وهل سيحتكم ساسة الجزائر إلى العقل
والمنطق ويودعون ويقطعون علاقتهم مع الجمهورية الأولى، ويضعون القواعد المؤسسة
للجمهورية الثانية استجابة للملايين من الجماهير رجالا ونساء، شبابا وكهولا، ذكورا
وإناثا، الذين دأبوا على المظاهرات والمسيرات مطالبين بالعدالة والمساواة
والديمقراطية والحرية والعزة والكرامة لا غير؟
عن صحيفة الشرق القطرية