لا يزال سؤال ملاءمة الدولة القومية التقليدية لمجتمعات العالم الإسلامي، مطروحا وسط كثير من المشتغلين في هذا الحقل الفكري بما فيهم كتاب التجديد الإسلامي، والمفكرين الغربيين، وذلك ضمن محاولات لإزالة الارتباك المفاهيمي في نماذج النظم السياسية الحديثة التي تدير المجتمعات الإسلامية.
في هذا الإطار، ناقش الباحث السوداني الدكتور محمد المجذوب في ندوة عقدت الأسبوع الماضي في الخرطوم، مشكلات الدولة الحديثة ومبادئ النظام السياسي الإسلامي، وحاول من خلال مفاهيم نظرية وفلسفية وعقدية إثبات امكانية استعادة بناء الحضار الإسلامية، ووراثة النظام العالمي الحالي المهيمن.
ونظمت الندوة ضمن أنشطة لمجموعة الإحياء والتجديد وسط الطلاب الصوماليين الذين يدرسون في الجامعات السودانية، حيث تُعنى المجموعة بمحاولات التجديد في الفكر الإسلامي على كافة الأصعدة من بينها دائرة المعرفة والتعليم والفنون وإعادة بناء الأمة الإسلامية، وتجديد علم الكلام الإسلامي.
مصير الدولة القومية
ويرى المجذوب، الذي يشغل منصب الأمين العام للمجموعة، أن الدولة القومية التقليدية بدأت تفقد الكثير من بريقها السياسي ومبررات وجودها الفلسفي والتاريخي، الذي كان لها إبان القرنين السابع والثامن عشر الميلادي، بما يعجل من انهيارها كوحدة سياسية تشرح فلسفة الاجتماع السياسي الداخلي، فضلاً عن تراجعها كوحدة سياسية عالمية تقليدية فاعلة قائمة، كونت وعلى مدى قرون الوحدة الأساسية للنظام الدولي الراهن، مما فتح المجال إلى التنظيمات والتجمعات الأممية والمعولمة لتلعب أدواراً أكثر خطورة من أدوار الدولة التقليدية في السياسة الدولية، وهي التحولات التي ستؤدي لاحقاً وبشكل كامل إلى انهيار النظام الداخلي للدولة التقليدية وللنظام الدولي الراهن بشكل متلازم، كما ستؤدي بدورها إلى العديد من الحروب والصراعات المدمرة العابرة للحدود الوطنية بل وللقارات، والتي بدورها ستعيد توضيح ملامح النظام السياسي العالمي القادم، إن كان سيأخذ صورة نظام، وسيعيد ترسيم الجغرافيا السياسية للعالم كونها ستحل محل الخارطة الجيوسياسية الراهنة.
الدولة القومية التقليدية بدأت تفقد الكثير من بريقها السياسي ومبررات وجودها الفلسفي والتاريخي
ويظهر هذا الاختلال في ثلاثة مظاهر مهمة: الأول هو ما إن وجدت هذه الخبرة للدولة القومية الوطنية خارج أوروبا إلا كانت متلازمة مع ثلاث أبعاد متكررة ومتشابهة لكونها أولا تطرح سؤال الهوية الاجتماعية والسياسية لدى المجتمع (من نحن؟) حتى في الدول التي لا تتضمن أعراقا مختلفة أو تباينات كبيرة، وعلى الرغم من أن المجتمع في العالم الإسلامي له هويته التاريخية وتراثه وهو الذي يشكل هويتهم، لكن الدولة عندما يعاد تركيبها في المجتمع تحتاج هي نفسها إلى هوية خاصة لأن الدولة مثلها مثل النظام الأسري أو الاقتصادي أو السياسي تحتاج إلى عقيدة تعقد عليها أمرها، وتحتاج إلى رابطة أو قومية، وفي الغالب تبحث عن فكرة القومية من خلال التعليم أو الإعلام أو القوة أو الخدمة المدنية ومؤسسات الدولة الاخرى، وأن سؤال الهوية هو في الأصل غير متصل بالجماعات وإنما بالدولة.
وحسب المجذوب فإن البعد الثاني في المشكلات التي تواجهها الدولة الحديثة، يتمثل في عامل الاستقرار السياسي في النظم الأوروبية التي تعتمد النظم مركزية بينما المجتمعات في العالم الإسلامي غير مركزية، ولعوامل كثيرة غير مختلطين، وأي محاولة لبناء نظام سياسي في العاصمة سيؤدي إلى مشكلات هيمنة المركز على بقية الاطراف وتنشأ الصراعات على هذا المركز المسيطر، لأن السلطة لا توزع بالتساوي وتكون محتكرة، وتظهر هنا مشكلة عدم الاستقررار السياسي.
ويضيف: بالنسبة للبعد الثالث؛ فإن الدولة الحديثة تواجه بمشكلة العدالة الاجتماعية، إذ أن السلطة فيها مركزية التحكم وهي الجهة التي تعيد توزيع الثروة المنتجة، فيما الاقتصاد هو فعل كل الناس في المركز والأطراف.
مقومات المواطنة
وعلى الجانب الفلسفي، فقد تولدت الدولة الحديثة على عناصر نظرية المواطنة وأهمها الحرية الفردية، التي أساسها أن الإنسان كائن أوجدته الطبيعة وهو حر بطبيعته، ويرى الفكر الغربي أن الإنسان المواطن الحر نظرية تطورية، ومفهوم الحرية هو المعنى النهائي، وهذه الحرية يمارسها في كل شكل من أشكال الحياة، ولا يكون المواطن حرا إلا إذا أحدث قطيعة مع الدين، وذلك نتيجة للصراع مع الكنيسة، وبالتالي يصبح الإنسان حرا من أي صيرورة مرتبطة بالماضي، بينما لا يمكن تصور أن يكون الإنسان حرا من أي تأثير سواء كان ثقافيا أو دينيا أو اجتماعيا، وحتى الإنسان الأوروبي ليس منفكا من تراثه وتقاليده، وبالتالي هو شيء ذهني لا يمكن تصوره بدون الإرادة الإنسانية، وهو بالمعنى الفلسفي مفهوم صعب التحقق وافتراضي ولا يوجد في الواقع فيما يتعلق بالحرية، إذ أن الحرية نفسها نتيجة وليست مقدمة، بينما الإرادة مرتبطة بالحرية، لكن الإرادة متصلة بالقيم المعنوية والروحية والغايات التي هي مرتبطة بالأخلاق وليس بفكرة الحرية، وهو موقف متناقض مع موقف الحرية، بينما المتصوفة كانوا أكثر عمقا ربطوا بين فكرة الحرية مع الإيمان بالله، الحرية مقابل العبودية.
العقد الاجتماعي
أما المبحث الثاني الذي يواجه الدولة الحديثة وفقا للدكتور المجذوب، فيتعلق بالعقد الاجتماعي، حيث يتحدث الفكر الغربي عن الدستور، لكن فكرته الأساسية تقوم على ميثاق سياسي يؤلف الحياة بين الجماعات، وهو بعد عقلاني قائم على المصلحة بفك الارتباط بين الإنسان وبين الكنيسة، بين الحاكم والمحكوم، وهنا تظهر فكرة الحكم الدستوري في المفهوم الغربي، ولكن النقد الذي يوجه إليها بانها خيالية وغير واقعية، وإنما هو تصور ذهني، وغير متعين في الواقع لأن الانتخابات لا تعبر عن العقد الاجتماعي وإنما تعبر عن إدارة مجموعات متنافسة ومتصارعة بدلا عن الحرب، بينما في التاريخ الإسلامي هناك مفهوم البيعة، متحقق في الواقع.
فكرة السيادة التي تأسست عليها نظرية الدولة الحديثة تتقزم وتتلاشى والمجتمع الإنساني يرجع إلى حالة بعيدة عن الدولة، حيث باتت هنالك جماعات لديها تأثير في السياسة أكبر من الدولة نفسها مثل القبائل والحركات المسلحة.
كيف يمكن لثورات بلا قيادات أن تحقق أهدافها؟
"الأزمات العربي" ينصح بتوافق إقليمي دولي ينهي الأزمة السورية