وقّع الرئيس ترمب، رئيس أكبر قوة عسكرية اقتصادية مؤثرة في العالم على قرار اعتراف واشنطن بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان السورية، المحتلة حسب القانون وقرارات مجلس الأمن الدولي الذي شكّل بدوره مرجعية حامية للسلام والأمن الدوليين، بموجب منظومة قيمية تعارفت عليها الدول عقب الحرب العالمية الثانية.
لأكثر من سبعين عاماً بقيت العلاقات الدولية محكومة لمنطق المساواة في السيادة بين الدول كافة، صغيرة كانت أم كبيرة، قوية كانت أم ضعيفة..، كما الاحتكام إلى القانون والأعراف الدولية كلما حدث خلاف بينها.
اليوم وبكل بساطة واستهتار بالدول، وتحقير للقانون والأعراف الدولية، وتجاهل للمنظومة الدولية ممثلة بالأمم المتحدة، تعلن واشنطن بشكل منفرد اعترافها بالسيادة الإسرائيلية على جزء أصيل من أراضي الدولة السورية، كما اعترفت من قبل بالسيادة الإسرائيلية على القدس المحتلة التي تمثل عاصمة الشعب الفلسطيني، وقلب العالم العربي والإسلامي.
أمام ضعف الموقف الدولي، وانزواء القوى العظمى والدول العربيةخلف تصريحات إعلامية وبيانات صحفية، أصبح من الصعب إقامة الحجة على أية دولة أو قوة عالمية أو إقليمية، ترى من مصلحتها احتلال أجزاء من دولة مجاورة أو حتى بعيدة، بذريعة الحفاظ على مصالحها وأمنها القومي استناداً إلى السلوك الصهيوأمريكي الأخير في فلسطين وسوريا.
ومن هنا أصبح جائزاً للبعض الاستنكار على اشنطن عندما تعترضعلى ضم موسكو لشبه جزيرة القرم في البحر الأسود، أو إذا اعترضت لاحقاً على ضم موسكو لشرق أوكرانيا الموالي لأراضيها، أو إذا اعترضت على قيام الصين ببسط سيطرتها على تايوان بذريعة ضمها إلى الوطن الأم الذي انفصلت عنه عقب الحرب الأهلية الصينية عام 1949.
هذا الأمر الذي ابتدعته الإدارة الأمريكية المتصهينة، قد ينسحب على سياسات العديد من الدول الكبرى والقوية القادرة على فرض سيطرتها وهيمنتها على الدول الصغيرة أو الضعيفة، ما يُلغي مبدأ تساوي السيادة بين الدول، ويقفز على مبدأ حق تقرير المصير للشعوب قليلة العدد أو الضعيفة عسكرياً واقتصادياً، ويفتح الباب واسعاً أمام القوى الكولونيالية، وعودة الإمبراطوريات الغابرة.
ويزيد المشهد الدولي والإقليمي تعقيداً تصريحات وزير الخارجية الأمريكي بومبيو في مقابلته مع شبكة التلفزة المسيحية الأمريكية أثناء زيارته لمدينة القدس (21 آذار/ مارس)، التي قال فيها: "إن الله أرسل ترمب إلى الأرض لحماية إسرائيل".
وعند سؤاله؛ هل تعتقد أن ترمب يمكن أن يكون مثل الملكة أستير؟ قال بومبيو: "كمسيحي أعتقد أن هذا ممكن..، الرئيس ترمب يمثل بالفعل الملكة أستير لمساعدته بإنقاذ الشعب اليهودي من الخطر الإيراني..، أنا واثق أن الرب يعمل معنا". (الملكة أستير؛ شخصية مذكورة في قصص الكتاب المقدس لدى اليهود والنصارى، وهي -بحسب الرواية- أقنعت زوجها الملك الفارسي خشايارشا الأول بعدم ذبح اليهود وإبادتهم).
بهذا يضيف بومبيو والإدارة الأمريكية بعداً جديداً في العلاقات والنزاعات الدولية، بعداً دينياً يجعل من سياسات الدول سياسات مقدّسة مشفوعة بالإخلاص للرب وبالخلاص من الأشرار في العالم الذين يخالفونهم الاعتقاد أو المذهب.
أي أن الإدارة الأمريكية، تدشن مرحلة جديدة في السياسة الدوليةعمادها الدين والقوة؛ فإسرائيل وأمريكاً أولاً، واليهودية والمسيحية المتصهينة أولاً، ومن يملك القوة له الكلمة الفصل بعيداً عن معيار العدل، والقانون الذي أجمعت عليه البشرية.
إذن؛ فالعالم والدول العظمى اليوم أمام تحدٍ واستحقاق كبير، إما أن تقف متّحدة في مواجهة التغول الصهيوأمريكي، أو أننا سنشهد ميلاد عصر جديد سِمَته صراعات دموية تتكئ على القوة وسياسة الأمر الواقع مدفوعة بقوة الاعتقاد والمقدّس المتصل بالسماء، وهذا يعني أن حلم الصهيونية في دولة إسرائيل الكبرى بات اليوم مُشرع الأبواب، فبالأمس القدس، واليوم الجولان، وغداً الضفة الغربية، وبعد غدٍ في عهدة التاريخ..، ما يعني أن الصراعات في الشرق الأوسط ستزداد، فما من فرصة أنسب للاحتلال الإسرائيلي من هذه التي تشهد فيها المنطقة ضياعاً وتشرذماً، وتبعية لواشنطن، وتقرّباً من تل ابيب بوابة الرضا الأمريكي.
المشهد الحالي يضع العديد من الدول العربية الصديقة لواشنطن وتل ابيب أمام مأزق داخلي كبير؛ فكيف ستبرر لشعوبها السياسات الأمريكية والإسرائيلية الاستعمارية التي تتمدد على أرض العرب ومقدساتهم في القدس، ولاحقاً في مدينة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، بذريعة "الحقوق" التاريخية والدينية لليهود.
وكيف ستتعامل الدول، شريكة السلام مع الكيان الصهيوني، مع مفردات "صفقة القرن" التي قد تحمل مفاجآت بشأن القدس والضفة الغربية، طالما أن المعيار لم يعد قرارات ما يُسمى بالشرعية الدولية التي تشبّث بها العرب، وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية.
تلك السياقات تستدعي من الجميع وخاصة الدول العربية والفلسطينيين، إعادة النظر في واقعهم بطرحهم لأسوأ السيناريوهات المتوقعة، للإجابة عن كيفية مواجهتها والتعامل معها، حتى لا يبقى الجميع أسرى لردّات الفعل ولجنوح سياسات الرئيس ترمب، الأسير بدوره لقيادة اليمين الصهيوني المتطرّف.