ما إن يتبادر إلى الذهن مصطلح الطابور الخامس، حتى ترتسم لك صورة
ذهنية لهذا المصطلح حيث التآمر والخيانة، بل ربما قفزت بك الذاكرة بعد تلك الصورة
إلى أحداث تاريخية، لعب التآمر الداخلي أو الخيانات الداخلية دورا في الهزائم
والانكسارات المعروفة، وهذا ربما يستدعي قبل أن نشرع في الحديث، التعريف بالمصطلح
كما جاء في موسوعة الجزيرة بأنه "دلالة على وجود عملاء محليين غير معروفين،
يشتركون في مؤامرة تُدار من الخارج ويُشكلون سندها المحلي وقوتها المتحفزة، في
انتظار الإذن بالتحرك".
يعود
تاريخ المصطلح كما جاء في الموسوعة إلى حقبة الحرب الأهلية الإسبانية. حيث توزعت
قوات الوطنيين على أربعة طوابير تزحف بشكل متواز. وفي إحدى مداخلات قائد الوطنيين
التوجيهية عبر الإذاعة، أثارَ مسألة وجود طابور خامس مختف داخل العاصمة مدريد،
ينتظر فقط وصول طلائع القوات القادمة ليشرع في تنفيذ المهام المسندة إليه من أجل
زعزعة السلطات الجمهورية القائمة وتيسير سقوط العاصمة.
أي
قراءة متأنية عميقة في حوادث التاريخ الكبيرة، وسقوط المدن والعواصم والحواضر
المهمة، ستجد أن الخيانات الداخلية كانت من الأسباب الرئيسية للسقوط. والحوادث
أكثر من أن نحصرها ها هنا، لكن الإشارة إلى بعضها مفيد، منها سقوط بغداد قديما حين
كانت عاصمة للعباسيين، ذاك السقوط المروع من أبرز الأمثلة على دور الطابور الخامس،
حيث صار يقترن سقوط المدينة بالوزير ابن العلقمي، الذي خان الخليفة وهيأ الأجواء
لدخول المغول، وما جرى بعد ذلك من إهلاك للحرث والنسل، في كارثة لا ينساها
التاريخ. ما نراه اليوم من شيوع عملية تسطيح واضحة المعالم في كثير من المجتمعات،
قد يجيز لنا ضم من يقومون بعمليات التسطيح تلك ضد مكونات مجتمعاتهم، ضمن الطابور
الخامس، الذي لا شك عندي أنه متغلغل في أي مجتمع بشري بصورة وأخرى، أو على شكل
خلايا نائمة تنتظر دورها في وقت محدد، أو تكون قد نشطت فعلا وظهرت في لحظة من
الغفلة كانت وما زالت سائدة في تلك المجتمعات.
ثقافة التسطيح
التسطيح
الذي أعنيه هو ذاك الاهتمام بالقشور في الموضوعات والقضايا، أو النظر إلى الأمور
بنظرة سطحية، وترك اللب أو الغوص في الأعماق، وهو ثقافة يقوم عليها كثيرون ويؤكدون
عليها ويحرصون على تعزيزها، وربما أبرز النماذج على ما نقول هم أولئك الذين تعورف
مؤخرا على تسميتهم بصهاينة العرب، الذين هم نماذج عملية تتحرك على الأرض، تقوم على
تسطيح عقليات شعوبهم منذ أن بدأت ثورات الربيع العربي تحديدا، أو كلما ثارت ثورة
الصهاينة الحقيقيين ضد عمليات المقاومة الفلسطينية.
راجت
هذه الثقافة قديما وانتشرت في مجتمعات القمع والإرهاب أو التصفيق والتطبيل، قام
على نشرها والتأكيد عليها زعماء وحكام. أرادوا من نشر ثقافة التسطيح تغييب الوعي
العام عن عظائم الأمور والقضايا المهمة، فكانت جل معارف شعوب أولئك الزعماء عبارة
عن معلومات غاية في السطحية للكثير من القضايا الحياتية، حتى لم يعد الكثيرون
قادرين على معرفة الحق أو تمييزه من الباطل أو الصواب من الخطأ. وهي واحدة من عشر
استراتيجيات تحدث عنها المفكر اليهودي تشومسكي، في معرض إجابته على سؤال: كيف يؤثر
الإعلام علينا نفسيا، فكانت إجابته عبارة عن عشر استراتيجيات يسلكها الإعلام
الموجّه، من أجل إحداث تأثيرات نفسية وفكرية على الجمهور الأعظم المتابع لتلك
الوسائل.
اليوم
وبفعل وسائل الاتصال والتواصل من فضائيات وإنترنت وغيرها، تسارعت عجلات ثقافة
التسطيح بين البشر، حيث تقوم وسائل إعلامية بدور عظيم وغاية في الخطورة في نشر تلك
الثقافة وتناول الكثير من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية بصورة سطحية
هزيلة. ورغم القوة الهائلة لشبكة الإنترنت للقيام بدور الضد لهذه الثقافة وبيان
الحقائق أولا بأول، إلا أن الملاحظ هو تزايد أعداد من تتسطح ثقافتهم يوما بعد يوم،
لا سيما في القضايا المصيرية العظيمة، وشواهد ذلك كثيرة حولنا يمنة ويسرة. ولعل
أبرز ما يمكن الاستشهاد به حاليا هو ما يجري من قبل صهاينة العرب حول مسألة ما
تسمى بصفقة القرن، والترويج لها بكل الطرق، تمهيدا لجعلها أمرا طبيعيا بين الشعوب
العربية المحيطة بدولة الاحتلال الإسرائيلي وبعض دول الجوار الأبعدين كدول الخليج
مثلا؛ بحيث يتم تهيئة البيئات والأجواء لتمرير الصفقة، دون أن يحرك ذلك النفوس
والمشاعر.
ما
المطلوب لمواجهة صهاينة العـرب ؟
نشر
الوعي بشكل عام، لا سيما الفكري والسياسي ومن قبلهما الإعلامي، هو أفضل أدوات
مقاومة حملات التسطيح والتغييب، لا سيما من قبل النخب المثقفة صاحبة الضمير الحي
والمطّلعة على بواطن الأمور وحقائق الأشياء؛ لأنّ ترك بعض وسائل الإعلام أو مواقع
في الإنترنت يقوم عليها صهاينة عرب وأعوانهم، يسرحون ويمرحون بين الشعوب لأجل مزيد
من تجهيل وتسطيح العقول، هو أمر غير مقبول البتة.
صار
من الواجب على كل صاحب ضمير حي يقظ، العمل على تفعيل الضد وتوعية الشعوب وتعميق
الفكر لديهم، واستثمار الوسائل أو الأسلحة ذاتها المستخدمة في نشر ثقافة التسطيح،
لتعم بدلا منها ثقافة التدبر والتفكر والتأمل، التي لا شك نتاجاتها ستكون عظيمة
الأثر، لا سيما في وجود عشرات من القضايا التي تتعرض للتسطيح والتجهيل كل يوم،
وقضية الأقصى والتطبيع أبرزها، ثم فقدان الهوية تاليها. وبينهما الآن ثورات الربيع
العربي التي تعرضت وما زالت تتعرض لمحن واختبارات وتحديات قاسية هنا وهناك. فهل النخب
المفكرة التي لم يمسها بعدُ داء الصهينة على قدر المسؤولية؟ أرجو ذلك.
عن صحيفة الشرق القطرية