نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" مقالا تحليليا لأستاذ التاريخ في جامعة لويولا في شيكاغو، مايكل خدركوفسكي، حول بوتين وعلاقته بالكنيسة الأرثوذكسية وتوظيفه لها.
وقال الكاتب، في مقاله الذي ترجمته "عربي21"، إن حوالي 150 ألف شخص تجمّعوا في 5 كانون ثان/ يناير أمام كاتدرائية سان صوفيا في عاصمة أوكرانيا (كييف)، وجاءوا جميعا لمشاهدة وثيقة تسمى توموسس، صدرت قبل ذلك بأيام عن البطريرك المسكوني للقسطنطينية، بارثولميو.
وكانت تلك الوثيقة مكتوبة بخط إغريقي مزيّن وبالإنجليزية وبالأوكرانية، وهذا ما حلمت به الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية طوال قرون، أي استقلالها عن موسكو.
وأضاف الكاتب أن إعلان الاستقلال جاء رغم أشهر من الضغوط التي مارسها الكرملين والكنيسة الروسية الأرثوذكسية خلف الكواليس لإقناع البطريرك بارثولوميو بعدم إصدار الوثيقة. وعندما لم تفلح جهود الإقناع، قام قراصنة مرتبطون بالكرملين بسرقة آلاف رسائل البريد الإلكتروني من مستشاري البطريرك بارثولوميو. وحين فشل الابتزاز لجأت موسكو الى التنمر التقليدي، حيث قامت بإصدار التهديدات غير المحددة، وشجب البطريرك، واتهامه بأنه عميل لأمريكا والفاتيكان، لكنه لم يتزحزح عن موقفه، وتم الانفصال.
ويعلق الكاتب: "لقد كانت ضربة على عدة مستويات لطموحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وللكنيسة الروسية، حيث يشكل الأوكرانيون الأرثوذكس ما نسبته 30% من مجموع المسيحيين الأرثوذكس المنضوين تحت بطريركية موسكو. وانتقلت عشرات الأبرشيات لرعاية الكنيسة الأوكرانية منذ التحول. ويتوقع تحول مئات أخرى. ويُتوقع أن تخسر موسكو ملايين المسيحيين وملايين الدولارات على شكل ممتلكات كنسية.
غير أن هذه ليست الخسائر الأهم. فمع هذا الاستقلال، لن يتبع جزء كبير من الشعب الأوكراني لتأثير موسكو في المسائل المتعلقة بالكنيسة، بل سيكونون تحت تأثير كنيسة مستقلة في كييف. والنتيجة أنه ربما ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم، لكنها خسرت أوكرانيا.
والأهم من ذلك أن الصراع على الكنيسة الأوكرانية تم على خلفية محاولات بوتين تشكيل روسيا من جديد، والتي يشكل عدد المسلمين فيها 20% من الشعب، وتصويرها على أنها أرض موحّدة ولها هوية واحدة.
وفي ذلك الجهد كانت إحدى استراتيجياته تتمثل في الاعتماد على الكنيسة كأساس للهوية الروسية وكداعم صلب لنظامه.
وفي الواقع، فإن العلاقة بين الكرملين وبطريركية موسكو قديمة قدم روسيا نفسها. وكانت الكنيسة الروسية الأرثوذكسية طيلة تاريخها تابعة للدولة ومؤيدة للاستبداد. فابتداء من القرن السادس عشر وفّرت لحكام موسكو عقيدة سياسية تقوم على "القدر المكتوب"، بادعاء أن موسكو أصبحت القدس الثانية وروما الثالثة (بعد روما والقسطنطينية).
وقد شكل نشوء دولة سوفييتية ملحدة عام 1922 صفعة قوية للكنيسة، حيث قامت الدولة بالاستيلاء على معظم الأراضي التابعة لها، وبقي القليل من المعاهد الدينية. واخترق جهاز المخابرات "كي جي بي" الكهنوت، وأصبح يتجسس على رجال الدين، ويروج للمصالح السوفييتية في الخارج.
وخلال تجربة روسيا القصيرة مع الديمقراطية في تسعينات القرن الماضي، عادت الكنيسة بعد عقود من القمع. وفي حكم بوتين استوعبت الدولة الكنيسة كجزء من مؤسساتها. واعتمد الكرملين على الكنيسة الأرثوذكسية على أنها القوة الموحّدة الرئيسية في البلد، وتوفر لها دعما ماديا سخيا.
بالمقابل، كانت الكنيسة مسوّقا رئيسا لفكرة "العالم الروسي"، التي تصوّر الكرملين على أنه مدافع عن الروس خارج روسيا. وذهب البطريرك كيريل، بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الروسية إلى حد وصف فترة بوتين بأنها "معجزة من الله".
وأحد أفضل الأمثلة على كيفية عمل الكنيسة والكرملين معا في روسيا للترويج للمشاريع القومية الروسية معرض بعنوان: "روسيا - تاريخي" الذي تنظمه الحكومة الروسية بالتعاون مع الكنيسة الأرثوذكسية، والذي يعرض في كل أنحاء الفيدرالية الروسية، ويمجّد الحكام الروس المستبدين بمن فيهم إيفان الرهيب وستالين، ويصوّرهم على أنهم الزعماء العظام، ويشوّه صورة "الديسمبريين" الذين حاولوا إدخال إصلاحات، ووضع دستور عام 1825، ويتهمهم بالعمالة للغرب. وتعلق صورة الرئيس بوتين بجانب صورة الكسندر بوشكين، مؤسس الأدب الروسي الحديث.
والرسالة الصريحة من المعرض هي أن حجم روسيا وطموحتها "الجيوسياسية" تحتاج إلى زعيم قوي، بل وظالم لتقوية البلد، ولصدّ أعدائه الغربيين. وهذه الحجة التي أكل عليها الدهر وشرب عادة ما تُستخدم لتبرير الاستبداد، يتم استخدامها الآن بالاستعانة بالعقائد الدينية.
ويعتبر المعرض من أفكار الأسقف تيكون شيفكونوف، المعروف بآرائه القومية القوية، وكونه كاهن الاعتراف لبوتين. ويقف الأسقف نفسه أيضا خلف مشروع لإعادة تسمية المطارات الرئيسية بأسماء "أبطال" روس. وتتكون القائمة بكاملها تقريبا من رجال من العرقية الروسية؛ إما شخصيات عسكرية أو علماء ساعدوا في زيادة القوة العسكرية لروسيا. ويغيب عن القائمة بشكل واضح اسم اندري ساخاروف، أبو القنبلة النووية الروسية، الذي فاز بجائزة نوبل للسلام، وذلك بسبب نشاطه في مجال حقوق الإنسان.
وبالإضافة لتلك التطورات، فقد ازداد نفوذ الكنيسة في الحكومة والجيش بوتيرة ثابتة. وتقوم وزارة الدفاع الروسية ببناء كاتدرائية خاصة بها ستكون ثالث أكبر كاتدرائية لدى المسيحيين الأرثوذكس. وأعلنت الوزارة مؤخرا أن درج الكاتدرائية سيُصنع من الدروع الألمانية المصهورة التي غنمتها روسيا خلال الحرب العالمية الثانية.
ويشبه الحماس الديني الجديد لدى الجيش حماس بوتين نفسه في علاقاته مع الأسقف تيكون.
وفي اجتماع مع القيادات الروسية في 18 تشرين أول/ أكتوبر، كان كلام الرئيس عن أحداث جسام مذهلا. فقال إن روسيا لا تخشى أحدا، وإن الشعب الروسي مستعد للتضحية بنفسه من أجل الأم.
أما بالنسبة لاستخدام الأسلحة النووية إن هوجمت روسيا، فقال: "سنرد وسينتهي بنا الأمر في الجنّة كشهداء، بينما يموتون هم ببساطة؛ لأنه لن يكون لديهم الوقت للتوبة".
وكلمة "هم" بالطبع تشير إلى الغرب، الذي تم تحويله الآن عن طريق صناع الدعاية من مجرد عدو "جيوسياسي" إلى عدو للديانة المسيحية الحقة.
ولكن في الحقيقة، وصل بوتين إلى طريق مسدود. فسياساته لم تؤد بروسيا إلا لعزلة أكبر على المستوى الدنيوي والديني في الوقت ذاته.
ويبدو أن بوتين بدأ بعد عجزه عن تغيير الطريق يبحث في تاريخ روسيا المظلم عن أيديولوجية تنقذه.
ويعلق الكاتب في نهاية مقاله بالقول إن "أيديولوجية كهذه تحتاج لخلق خطاب قومي معادٍ للغرب، في الوقت ذاته الذي تجعل فيه روسيا بلدا مقدسا للمسيحية الأرثوذكسية.. أيديولوجية كهذه يجب أن تقلق أي شخص يتوقف قليلا كي يفكر فيها".
انتهاء قمة بين أردوغان بوتين.. وسوريا أبرز القضايا
أردوغان يصل موسكو للقاء بوتين ومناقشة الملف السوري
اتفاق ألماني روسي على المضي في المسار السياسي بسوريا