ما من أمةٍ إلا وتمر بمراحل انتصار تعلو فيها وتزدهر، وحالات انكسار
-إن لم تحسن التعامل معها لتجاوزها- توشك أن تنهار أو تندثر.
وأهم
مقومات الوقوف من العثرة والنهوض من الكبوة هو استجماع عناصر القوة، واستلهام روح
الثورة على أسباب الهزائم، واستنهاض العزائم التي فترت، ونفخ الروح في نفوس أضناها
اليأس وهدٌَها الإحباط، واستكشاف مصادر النور بدلاً من لعن الظلام، والبحث عن
مكامن القوة بدلاً من الاستسلام لأسباب الضعف.
ولا
يُحصِّل ذلك المنهزمون نفسياً؛ لأن أكبر الهزائم في ميادين المعارك هي الهزيمة
النفسية، بل -قل إن شئت- هي أم الهزائم، وهي التي تدفع أصحابها للتواري خجلاً من
هويتهم، والعزوف طوعاً عن مصدر عِزِهم وسبب فخارهم، ثم يتخبطون بحثاً عن سرابٍ
بِقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ثم يتردى حالهم من
الاعتزاز بهويتهم إلى تجنب إعلانها إلى قابليتهم للابتزاز؛ لإحساسهم بالإخفاق،
وربما اهتزاز يقينهم بما كانوا عليه.
وعلم
الله أن نقصاً من أي نوع لم يكن في الهوية أو الفكرة، بل فيمن حملوها وأساءوا
التعامل بها ومعها، والبعض من حيث لا يدري تجاوز مرحلة قابلية الابتزاز إلى جاهزية
الابتزاز إلى تقديم تنازلات الابتزاز من غير طلب لها ولا حاجة إليها، ولا تحقيق أي
نتيجة من ورائها
وهم
إذ يحاولون التكيف مع واقع متغير من أجل تحقيق أهداف ملموسة، يتغيرون هم أيضاً من
حيث لا يدرون، وربما كان التغير للأسوأ؛ لمساسه بأهم الثوابت، وهو عدم الانهزامية
مهما كان الظرف الراهن.
وأقول
إن استجابة الإسلاميين للمتغيرات الدولية وعوامل القبول والرفض لهم ينبغي أن تكون
مرنة، لكنها مرونة تستند إلى ثوابت، فالاستجابة لرياح التغيير واستنشاق هواء نهاياتها
باعتباره تجديداً للأوكسجين اللازم للتنفس السياسي ينبغي أن تكون باعتبارها رياح
تغيير وليست رياح تدمير.
وفاعلية
التغيير وتطوير المفاهيم يكون بالإجابة عن أسئلة امتحان الواقع السياسي والاقتصادي
والاجتماعي المعاش، وإدراك حقيقة هامة، وهي أن هواء المجتمع ما زال إسلامياً، رغم ما
يحمله من شوائب وأتربة.
أقول
هذا للحريصين على الالتحاف بالعلمنة واللبرلة، حتى لو كانت من حيث الشكل ظناً منهم
أنها مستندات القبول عند الآخر، خاصة في الخارج، ونسوا أو تناسوا حقائق مهمة.
وهي
أن هذا الآخر هو الذي مهد للانقضاض عليهم، أو شارك فيه، أو دفع إليه، أو ساعد على
استمراره، وإن كان لهذا الآخر في الداخل والخارج من وزن فهو لا يقاس بأي حال
بالقوة الفاعلة على الأرض، الحاسمة للأمر.
هذه
القوة الفاعلة كانت وما زالت تنطلق من عقيدة راسخة تموت لأجلها دون سواها، أو من
مصالح وطن لا تتعارض مع المبادئ، وأدناها العيش والحرية والعدالة الاجتماعية
والكرامة الإنسانية، وأصحابها لم يتوانوا لحظة في تقديم أرواحهم وما يملكون فداءً
للقيم العليا، وما أساءوا إذ أسلموا قيادهم لمن لم يحسن قيادتهم والاستفادة منهم،
وربما فرقهم بسوء تقديره وفشل تدبيره، وبدل تدارك أسباب الفرقة بجمع شتاتهم إذ هو
يعلن البحث عن الاصطفاف مع غيرهم، ولا مشاحة في البحث عن الاصطفاف مع الأغيار فهو
خير، ولكن الاصطفاف- مع أهميته والحرص عليه- لا يعني جاهزية الابتزاز من الآخر
مهما كان، ولا يعني التنازل عن مصدر الاعتزاز، وينبغي ألّا ننسى قول الله لنبيه: (ودوا
لو تدهن فيدهنون)، وقوله: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين).
ولا
يعني هذا على سبيل القطع التدابر مع الآخر، بل على العكس من ذلك تماماً، فيجب
يقيناً البحث عن المشتركات وتعظيمها، ورفع القيم العليا، والتجمع حولها، والتعاون
لأجلها، مع احترام خيارات الآخر، وفي الوقت ذاته عليه أن يحترم خياراتنا، ولن
يحترمها إلا إذا احترمناها نحن واعتززنا بها، ولا نحس بالانهزامية مطلقاً.
فالانهزامية
هي مقدمة التنازل عن الهوية، والتفريط في مصادر الاعتزاز تعني المزيد من
الابتزاز، ومن يفعل ذلك لن يحصل شيئاً، وأصحاب ذلك لا أرضاً قطعوا ولا ظهراً أبقوا.