قضايا وآراء

أمريكا والقيم

1300x600
تتطور أحداث قتل جمال خاشقجي رحمه الله، مع تدخل أعضاء الكونجرس الأمريكي، سواء من الشيوخ أو النواب، بالإضافة إلى المقالات المتتالية في أكبر وأشهر الصحف الأمريكية، مثل واشنطن بوست ونيويورك تايمز، التي تهاجم ترامب، وكذلك الظهور المتزايد لأعضاء الكونجرس من الحزبين الديمقراطي والجمهوري بشأن موضوع خاشقجي، والخلاف بين تقارير وزيري الخارجية والدفاع حول المسؤولة؛ عن تقارير المخابرات المركزية حول نفس الشأن، والهجوم المتتالي على ترامب لدعمه محمد بن سلمان.. وتحدث الجميع عن أن أمريكا والرئيس الأمريكي يجب أن يقفا مع القيم الأمريكية، وأن دعم محمد بن سلمان يتعارض مع تلك القيم؛ لأنه أصدر الأمر بقتل خاشقجي، وقام بالتستر على من نفذ بالقتل والتمثيل بالجثة. وبالطبع هذه المظاهرة من أعضاء الشيوخ والنواب، وما تتناوله الصحف ووسائل الأعلام، تروق للبعض في المنطقة العربية، حيث يقومون بالترديد، حتى أن بعض المحللين من العالم العربي، وهم أساتذه جامعيون ومتخصصون، أصبحوا يرددون نفس المعاني، وأن أمريكا يجب أن تحافظ على قيمها!!

وهنا أتوقف لكي أتساءل: ما هي القيم الأمريكية التي يتشدق بها أعضاء الشيوخ والنواب، وتتشدق بها الصحف الأمريكية؟ يبدو أن الإنسان دائم النسيان، وهذه حقيقة، ولكن ما يحزن أن هذا العذر يتجاوز عموم الناس إلى أصحاب الفكر والمثقفين والمتخصصين في التاريخ والسياسة. فمنذ بداية التأسيس للدولة الأمريكية في نهاية القرن السابع عشر، بل يمكن القول انه منذ اكتشافها على يد كريستوفر كولومبوس عام 1492 (وهذا في حد ذاته في حاجة إلى تحقيق؛ لان هناك الكثير من الوثائق التي تؤكد اكتشاف العرب والمسلمين لأمريكا قبل ذلك التاريخ بعدة قرون)؛ والولايات المتحدة الأمريكية والشعوب التي استوطنتها، قادمة من مختلف الدول الأوربية، تمارس العديد الانتهاكات، ليس فقط للقيم، ولكن للآدمية أساسا، في حين أن الشعوب الأصلية التي كانت تسكن تلك البلاد كانت تتميز بالطيبة والصدق والقناعة، وأنه لا توجد في العالم أمة أفضل منهم، وهذا ما وصفهم به كولومبوس نفسه. 

سوف نتناول في السطور التالية عدة محطات ونماذج للقيم الأمريكية على مر العصور، منذ الاكتشاف وحتى وقتنا المعاصر، والتي يتشدق بها الكثيرون الآن.

وأولى هذه المحطات مع الاكتشاف، وكيف كان التعامل مع السكان الأصليين الذين وصفهم أحد القساوسه الإسبان عند زيارته لأرض الأحلام (كما كان يسميها المستكشفون في ذلك الوقت)، وهو بارتولومي دي لاس، الذي قال عنهم أنهم أناس طيبون ومتواضعون، ويتميزون بالصبر والقناعة، مع أنهم فقراء، ولا يتقاتلون ولا يحملون الحقد لأحد، وغير ذلك من صفات جيدة. ولكن ماذا كان رد فعل الرجل الأوروبي عند وصوله لهذه الأرض؟ فقد قام باستعباد الشعب الأصلي قبل أن يقضي عليه، وبعض الدراسات تشير إلى أن الرجل الغربي قضى على أكثر من 100 مليون إنسان ممن كانوا يعيشون في تلك البلاد. وتعددت الطرق والأساليب التي اتخذها الرجل الأبيض في القضاء على هذه الشعوب المسالمة، سواء بالقتل المباشر، حيث انتشر ما أطلق عليهم بصائدي الرؤوس، والذين كانوا يقومون بقتل السكان الأصليين رجال ونساء وأطفال ويقطعون رؤوسهم ويقومون بتسليمها إلى السلطات الإسبانية أو الإنجليزية مقابل مبلغ من المال، كما كان الرجل الغربي في ذلك الوقت مبدعا، حيث تم اكتشاف ما يطلق عليه بالحروب الجرثومية، فقد كان الغربيون يقومون بافتعال بعض المناوشات مع القبائل المختلفة، ثم يقومون بعقد معاهدات للصلح، ومن ثم يهدون تلك القبائل بالبطاطين الملوثة بجراثيم الأمراض، مثل السل والكوليرا، وغيرهما من الأمراض الفتاكة.

أما ثاني تلك المحطات، فكانت بعد أن استقر الوضع للرجل الأبيض في تلك البلاد، والقضاء شبه الكامل على السكان الأصليين، حيث بدأت مرحلة جديدة من قيم الرجل الأبيض في الظهور، وهي مرحلة الرق واستعباد البشر، فتم استجلاب الأفارقة لكي يخدموا ذلك السيد، لنرى كيف عانى الإنسان الأسود القادم من أفريقيا ليس كمهاجر، ولكنه كان يُختطف من بلاده وقراه ثم يباع في أرض الأحلام ليقوم بخدمة أسياده البيض، سواء في المنزل أو في المزارع. وللأسف كانوا لا يعاملون كإنسان، حيث كان الرجل الأبيض يفضل الحيوان (مثل حصانه وغيره) على ما يملكه من عبيد من الأفارقة. وكان العبد يهان ويعذب ثم يقتل إذا قام بأي تصرف لم يرق للسيد. حتى أنه قد تم توثيق هذه الفترة من خلال العديد من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية، والتي كان أشهرها مسلسل الجذور، والذي كتبه أحد مؤلفي الدراما في السينما الأمريكية، حيث وضح كيف كان التعامل مع هؤلاء المختطفين من ديارهم من أجل أن يُستعبدوا في أرض الأحلام. وقد قامت خلال تلك الفترة العديد من المحاولات للثورة من أجل تحرير هؤلاء العبيد، ولكن للأسف كان الرجل الأبيض يستخدم أساليب دنيئة في الإيقاع بين السود في تلك المحاولات.

وبعد تحرير العبيد وتوحد الولايات المتحدة عام 1865، وبعد الحرب الأهلية واعتماد التعديل الثالث في الدستور الذي ينادي بالحرية والعدل والأخوة بين الأمريكيين، بدأت قيم جديدة تظهر في المجتمع، وهي قيم الأنانية والتعالي والظلم؛ ليس فقط داخل الأراضي الأمريكية وبين أبناء الشعب الواحد، ولكنها انتقلت لتكون هي قيم التعامل مع المحيط الخارجي. فعلى المستوى الداخلي، استمرت التفرقة في التعامل بين الأبيض والأسود. ولعل حركة الحقوق المدنية بزعامة مارتن لوثر كنج نموذج لمواجهة هذا التعامل. وحتى يومنا هذا، نشاهد العديد والعديد من الأحداث العنصرية، سواء مع السود أو اللاتينيين أو المسلمين المقيمين في الولايات المتحدة.

وعلى المستوى الخارجي، يجب ألا ننسى حرب فيتنامـ وقتل ما يزيد عن أربعة ملايين فيتناميـ وقول الجنرالات الأمريكيين عن الفيتناميين أنهم مثل القمل الذي يغزو جلد الكلابأ وأنه يجب التعامل معهم كما تم التعامل مع الهنود الحمر السكان الأصليين لأمريكا (وهذا موثق في شهادات هؤلاء الجنرالات في محاضر جلسات في الكونجرس الأمريكي عن حرب فيتنام)، وقبلها إلقاء القنابل الذرية على اليابانيين في الحرب العالمية الثانية، وبعدها القنابل التي ألقيت في حرب أفغانستان والعراق، وما كان يحدث في سجن أبو غريب بالعراق وغيره في الدول المختلفة في أمريكا الجنوبية وغيرها، بالإضافة إلى دعم ومساعدة المستبدين في أنحاء العالم، شرقا وغربا، من ماركوس في الفلبين، وبينوشيه في تشيلي.. هذه هي القيم الأمريكية الحقيقية، وهذا دفع البعض إلى أن يقول أن الأمريكان هم أساتذة النازيين.

هذا بعض من كل؛ عن القيم الأمريكية التي يتشدق بها الجميع الآن، وبالتأكيد ما خفي كان أعظم. وهنا يجب التأكيد على أن هناك بالتأكيد أفرادا من الشعب الأمريكي لهم قيم فاضلة وإيجابية، ولكن ما أتحدث عنه هو قيم المجتمع الأمريكي، والمؤسسة الأمريكية التي تدير الدولة ويخضع لها الكونجرس والإعلام والقضاء والمجتمع كله. فأرجو ألا ننزلق كثيرا في الترويج لمقولات ثبت عدم صحتها على مدار السنين. كما أنني أردت التذكير بأن القيم الإيجابية الفاضلة لن تكون إلا نابعة من الإسلام أو الشخصية السوية ذات الفطرة السليمة، والتي يندر وجودها في عالمنا المعاصر إلا إذا تمسك بتعاليم الدين الخاتم. فهل نتذكر أم نفضل النسيان؟

والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.