قبل عام مضى، برزت دول أمريكا اللاتينية وجملة من الرؤساء البراغماتيين، والمعتدلين، والمؤيدين لسياسات الأسواق عن بعض نظرائهم في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وخرجت ثمانية سباقات انتخابية رئاسية في وقت لاحق على ذلك، وبدت تلك المنطقة في مشهد أدنى من حيث الاستثنائية المعهودة عليها. وعادت الشعبوية إلى موئلها التاريخي هناك. إلا أن الظلم، في هذه المرة تحديدا، وليست الطبقية الاقتصادية، كان السبب الرئيسي في تحول الناخبين ضد المؤسسة السياسية، رافعا من شأن العناصر الخارجية التي هددت بتقويض المعايير الديمقراطية المعروفة.
ولا
ينبغي لمؤيدي الديمقراطية أن تنالهم أحاسيس اليأس بعد، حيث أعادت الكثير من
السباقات الرئاسية في المنطقة تأكيد مرونتها. وفي باراغواي وكوستاريكا، ظهر
جيل جديد من القادة محاولا إحياء الأحزاب الحاكمة. وفي تشيلي وكولومبيا، التي
أطاح الناخبون فيهما بالزعماء الذين لا يحظون بالشعبية اللائقة، كان الرئيسان
الجديدان سيباستيان بينيرا وإيفان دوكي، أبعد ما يكونان عن فئة الغرباء عن سياسات
البلاد الداخلية.
ومع
ذلك، لا يمكن وصف سياسات المنطقة بأنها على ما يرام. ووفقا لموقع «Americasbarometro» هناك استطلاع شامل للرأي أُجري في
29 دولة من دول المنطقة، وشمل أكثر من 40 ألف مشارك، فإن مستوى الإيمان بالنظام
الديمقراطي قد انخفض إلى أدنى مستوياته التاريخية. ويكمن الحل في المزيد من
الديمقراطية، بدءا بتعزيز الفرع القضائي الثالث في الحكومة.
وغضب
الناخبين في تلك البلدان له أكثر من مبرر يؤيده. إذ تهيمن فضائح الفساد على الدورة
الإخبارية اليومية في بلدان كثيرة بالمنطقة، حتى مع استمرار ندرة أحكام الإدانة
القضائية بحق المخطئين. وتفسد أعمال العنف المستمرة صفاءَ الحياة اليومية للكثير
من المواطنين، مع واحد من كل خمسة مواطنين يتقدم ببلاغ يومي إلى السلطات، لأنه
ضحية من ضحايا إحدى الجرائم خلال العام الماضي وحده. ويحول ارتفاع معدلات الجريمة
دون خروج الناس من منازلهم ليلا، ويؤدي إلى حرمان أطفالهم من مجرد اللعب أمام
المنازل، أو شراء الأشياء التي قد تلفت نظر اللصوص هنا أو هناك. وانتقلت مكاسب
أفضل نمو اقتصادي فاتر هناك بالكاد إلى نصف إجمالي العمالة الذين يعملون خارج
المنظومة الاقتصادية الرسمية في البلاد.
وتظهر
هذه الاتجاهات المثيرة للقلق، أكثر ما تظهر، في كل من المكسيك والبرازيل، التي
يقطنهما نصف إجمالي سكان أمريكا اللاتينية قاطبة. ومن شأن مواطني المكسيك
والبرازيل، أكثر من غيرهم، أن يشهدوا فساد السياسيين في بلادهم، والاعتقاد السائد
بندرة وجود العدالة وتحقيق مآربها في المجتمع، وأن الديمقراطية ليست الحل الأمثل
لأغلب مشكلاتهم الحالية. وليس من المستغرب، أن يكون الناخبون في هذين الاقتصادين
الكبيرين قد مالوا إلى الغرباء، والرجال الأقوياء، مع ازدراء واضح للصحافة المحلية
والإشراف التشريعي، أو أي تشكيك يتعلق في واقع الأمر بتفسيرهم لإرادة الشعب.
وحشد
كبار الشعبويين التاريخيين في أمريكا اللاتينية، ومن أبرزهم البرازيلي غيتوليو
فارغاس، والأرجنتيني خوان بيرون، ومؤخراً الفنزويلي هوغو شافيز، والأرجنتينية
كريستينا كيرشنر، أنصارهم من خلال اللعب على أوتار الانقسامات الاقتصادية العميقة
بين الأثرياء الذين يملكون والفقراء الذين لا يملكون. وفي أوروبا والولايات
المتحدة اليوم، تحرك سياسات الهوية وتؤيد النعرات الشعبوية المزرية.
وهناك موجة جديدة من الدخلاء في أميركا اللاتينية توجه مشاعر الجماهير بالتلويح المستمر ببطاقة الظلم. وفي الوقت الذي كان يُشار فيه إلى المطالبات التاريخية الطبقية أو المزيد من سياسات الهوية الراهنة، تعهد كل من الرئيس المكسيكي الجديد أندريس مانويل لوبيس أوبرادور، والرئيس البرازيلي الجديد جايير بولسونارو بإنهاء أعمال العنف، والفساد، والإفلات من العقاب، والقضاء على عصابات المافيا التي تتلاعب بالنظام على حساب المواطن البسيط. وباتت مثل هذه الادعاءات هي ما استمالت مشاعر المواطنين من صغار الناخبين، الأكثر ثراء، والأفضل تعليما، والراغبين كلية في تغيير النظام.
يعكس
جزء من هذا التحول النمو غير المثالي، ولكنه حقيقي، للطبقة المتوسطة في أمريكا
اللاتينية منذ أيام الموجات الشعبوية الأولى. وخلال العقد الأول من القرن الحادي
والعشرين، خرج نحو 70 مليون مواطن من أمريكا اللاتينية، 40 مليونا منهم في
البرازيل وحدها، من خط الفقر. ومع تراجع وتيرة الصراع اليومي لإطعام أنفسهم
وعائلاتهم، ومع توجه الكثيرين منهم إلى سداد المستحقات الضريبية عليهم، فتح
الافتقار إلى الخدمات الأساسية، وانعدام الإنصاف في النظام، وعدم الاستجابة الحكومية
إلا للنخبة المختارة من أبناء الشعب، الباب على مصراعيه أمام انقسام جديد يمكن
للساسة الدخلاء استغلاله على أفضل وجه ممكن.
ومما
زاد من ضخامة هذا الاتجاه العام، كانت الزيادة في الشفافية من دون مساءلة واضحة
وحقيقية. وعلى مدى السنوات العشر الماضية، سهل قانون حرية المعلومات، وأنشطة
الصحفيين الاستقصائيين، ومنظمات المجتمع المدني المستقلة بصورة متزايدة، وأنماط
التواصل الجديدة عبر وسائل الإعلام الاجتماعية، من فضح ممارسات الكسب غير المشروع
وغيرها من السلوكيات الفاسدة. ومن واقع معرفة ما قام به رجال الأعمال والنخب السياسية
(أو على الأقل ما كانوا متهمين بارتكابه)، يرى المواطنون أن القلة القليلة منهم
ينتهي بهم الأمر وراء القضبان. ولقد انهارت نظم العدالة بصورة مشينة، لدرجة أن
القتلة في أكثر المناطق عنفا في العالم يمرون من دون عقاب. وفي المكسيك وحدها،
تسفر نسبة 5 في المائة فقط من جرائم القتل عن الإدانات القضائية. وسجل البرازيل
ليس أفضل من ذلك على أي حال. ولقد صار الإفلات من العقاب هو القاعدة وليس
الاستثناء.
تتعايش
الديمقراطية بصورة غير ملائمة مع المجتمعات والسياسات الحصرية. وأسفرت الانتخابات
التنافسية على مدى العقود الكثيرة الماضية في قارة أمريكا اللاتينية، عن فتح المجال
على السلطتين التنفيذية والتشريعية، وأدى التناوب في السلطة إلى إحداث قدر معتبر
من التغيير. ودفع انتشار منظمات المجتمع المدني إلى ترسيخ أركان هذه التحولات في
المجتمعات، وممارسة الضغوط على الأحزاب السياسية، والمسؤولين المنتخبين، لأجل
التعامل مع مطالب المواطنين بصفة عامة.
عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية