في أخبار الذكرى الثلاثين لإعلان استقلال فلسطين، تقول إحدى وسائل
الإعلام: "يحتفل الفلسطينيون يوم 15 تشرين الثاني (نوفمبر) من كل عام بذكرى
إعلان الاستقلال وقيام دولة فلسطين". وتستطرد إحداها: "وقد شهدت الساحة
الفلسطينية منذ ذلك التاريخ سلسلة من الأحداث والتطورات، أبرزها استمرار الاحتلال
الإسرائيلي ممثلا في الاستيطان وعمليات التهويد".
وتبدو عبارة "يحتفل الفلسطينيون" ملفتة بشكل خاص. لا أتصور
أن لدى الفلسطينيين شيئا يحتفلون به بعد هذه الأعوام الثلاثين، كما يعترف الجزء
الثاني من الخبر. بل إن "ذكرى الاستقلال" تزامنت مع سقوط المزيد من
الضحايا الفلسطينيين في غزة، وشهدت اشتباكات مع الاحتلال، مثل كل الثلاثين عاما
الماضية.
كثرة
الضحايا الفلسطينيين الذين يسقطون على أساس يومي، حتى منذ "إعلان استقلال
فلسطين" جعلت الأخبار عنهم تذهب إلى الصفحات الداخلية وأسفل قائمة الأخبار.
وكما يبدو، دخلت هذه الأخبار في العاديّة ولم يعد فيها جديد يستحق الانتباه. بل إن
هناك اتجاهات لانتقاد الفلسطينيين في غزة على "استفزاز إسرائيل"، واعتبار
مقاومتهم، حتى بالشكل السلمي في مسيرات العودة العظيمة، خطأ من جانبهم وليس من
العدو المحتل الذي يحاصرهم ويقتلهم يوميا.
تتجاهل
هذه التوجهات حقيقة أن الفلسطينيين في القطاع مستهدفون بحرب دائمة من الحصار
والتجويع والإغلاق. كما تتجاهل القضية الأساسية التي جُعلت –لأسباب عجيبة- غير
أساسية: أن فلسطين محتلة، ومعظم أهلها لاجئون، وكلهم محرومون من حق تقرير المصير.
ويريد الكثيرون أن يقترحوا على الفلسطينيين في القطاع التطبيع مع الواقع بهذه
الصفات غير الإنسانية، كواقع يتعذر تغييره. وتصبح النصيحة أن من الأفضل عدم إيقاظ
العملاق النائم عند بابك، حتى لو أنه يسجنك في دارك ويذلك ويجوعك ويريدك أن تموت.
الصورة
"الأخرى" من "استقلال فلسطين" هي الضفة الغربية المحتلة التي
تحكمها السلطة. هناك، يبدو الأمر في ظاهره مغايرا لتجربة الأقران في القطاع.
فالناس يتمتعون بـ"سلام" نسبي؛ يعملون ويبنون، وربما يتاجرون. لكنّ نظرة
أعمق ستقترح أن وضعهم أخطر من وضع غزة، من حيث التداعيات على مجمل قضية
الفلسطينيين ومصيرهم الوطني.
من
المفارقات أن يأتي تشخيص دقيق لوضع الضفة من صحفية "هآرتس"،
"الإسرائيلية" أميرة هاس. وبينما تأخذ هاس الصحفي البريطاني روبرت فيسك
في جولة في الضفة لتريه بشاعة الوضع ووحشية جدار الفصل العنصري، تخيلت كائنا
فضائيا يزور الضفة. وتقول عنه: "إنه يرى مدينة مترامية الأطراف (رام الله)،
وبنايات أنيقة... لديكَ دور سينما هنا ومتاجر وأعمال. أنظر إلى السيارات هناك. سوف
يقول رجلنا الفضائي: ‘ما المشكلة؟ لماذا تشتكون من الاحتلال’؟ وإذن، المشكلة أنه
يتكون لديك وهم بأنك لست تحت الاحتلال في هذا الحيز الضيق، في القفص، في هذا السجن
الخمس نجوم... الخطوط الكونتورية، الحدود، واضحة جدا. لكن الناس في داخل الحدود
تعودوا على نوع من الطبيعية التي يصعب عليهم كثيرا أن يتخلوا عنها الآن".
"الطبيعية" بهذه الظروف مقتلٌ لقضية التحرر الوطني الفلسطيني.
إذا أصبحت تحرص على القليل الذي لديك وتقنع نفسك بأنك حر وأنت في "سجن خمس
نجوم"، فإنك تكون قد هُزمت. وتلتقط أميرة هاس المؤشرات: "عندما انخرط
بعض الشباب في هجمات الطعن وذهب بعض الطلبة إلى نقاط التفتيش هنا للاشتباك مع
الجيش الإسرائيلي، شعر الناس معهم عاطفيا. لكنك لم تر الحشود تأتي لمواجهة
الجيش". والذي يوقف فلسطينيي الضفة عن المشاركة في المواجهة، حسب هاس، هو
انقسام فتح وحماس، وترامب، والشعور بأن تضحيتهم ستكون بلا ثمن.
هذه
المشاعر، وهذا التطبيع للـ"السلام" في السجن خمس نجوم، وتوهُّم العيش في
دولة مع أنك تحت الاحتلال، هي بعض هبات أوسلو الذي أعقب "استقلال
فلسطين". وهي أخطر بالتأكيد من مشاعر القهر المغايرة لدى الفلسطينيين في غزة.
فالرضا يدفع إلى الاستكانة، والشعوب بالقهر يدفع دائما إلى التمرد والسعي إلى
التغيير.
الآن،
بعد ثلاثين عاما من "إعلان الاستقلال" وتبعاته التي أوهمت العالَم بأن
الفلسطينيين أصبحت لهم دولة ويفاوضون الاحتلال كنظير، أصبح الفلسطينيون ثلاث
جماعات. الفلسطينيون في الشتات، الذين بلا دولة ويجري معظم الحديث عن تجريدهم من
حق العودة؛ والفلسطينيون في غزة، المحاصرون والمستهدفون بالقتل؛ والفلسطينيون في
الضفة، الخاضعون للاحتلال، وإنما الذين قد يتوهمون العكس. وكل ذلك يجمعه سياق
تطبيع "السلام" بهذه الصفات، وتغريب المقاومة.
عن صحيفة الغد الأردنية