بتزكية العلّامة أحمد عبد السلام الريسوني، رئيسًا للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، خليفة للشيخ يوسف القرضاوي، تعود المدرسة المغاربيّة إلى واجهة الفكر الفقهي الإسلامي، بما يفرض تثمين الموقع والاستثمار في توجّه “العقل الاجتهادي” للرجل، والعمل على تكريس المرجعية الدينيّة الإقليميّة.
بعيدًا عن ثنائيةِ المشرق والمغرب، وفضلِ هذا على ذاك، فإنّ فقهاء المغرب العربي منذ عهد الإمام الشاطبي وصولا إلى الدكتور الريسوني، مرورًا بالشيخ الطاهر بن عاشور، هم روّاد المدرسة الفقهية المقاصديّة في التراث الفقهي الإسلامي، من الذين ساهموا في ترسيخ الفهم للنص الشرعي، قرآنًا وسنّة، وفق مقاصد الإسلام الكبرى وكليّاته الأساسيّة.
إنّ بروز أعلام المدرسة الفقهيّة المغاربيّة بوعيهم المقاصدي في السياق الثقافي والفكري العالمي الراهن، سيكون ضمانة رئيسة في مواكبة الفكر الإسلامي للتحديّات التي تطرحها التحوُّلات الجذريّة باسم العولمة والحداثة والقيم الكونيّة.
ذلك أنّ منظومة التفكير المقاصدي الذي يطبع العقل الفقهي المغاربي منذ زمن الشاطبي هو السبيل الوسط، بين غلاة التطرف الديني الذين يعيشون في كهوف الماضي، دون إدراكٍ معرفي لجوهر الدين ورسالته الإنسانيّة الحضارية، ولا وعي برهانات الواقع المعقّد، وبين خصوم الدين من المتدثرين بوشاح التنوير الإسلامي جهلاً أو زيفًا، الذين يرومون شطب الشريعة بكل أحكامها وأبعادها من حياة الناس.
لعلّ التماسّ الحضاري والتاريخي، منذ عهد الإسلام في الأندلس، بين المغاربة والمدنيّة الغربيّة، وبالتحديد الأوروبيّة منها، على الضفة الشمالية للمتوسط، فضلاً عن جغرافيّة المغرب الإسلامي في شمال إفريقيا، وتشكيله جسرًا حضاريّا بين القارتين، زيادة على تراكم عوامل تاريخيّة مرتبطة بحركة الاستعمار الحديث، وما نجم عنها من انفتاح ثقافي ولغوي وهجرة علميّة وديمغرافيّة، كلّها عوامل موضوعيّة قد تجعل البيئة الفكريّة المغاربيّة مؤهّلة للتفاعل الحضاري مع أسئلة النهضة والهويّة والفنّ والديمقراطية وحقوق الإنسان والحريّات الفرديّة والجماعيّة، وغيرها من الإشكالات التي تثار تحت ذريعة الاستجابة لمقتضيات الحداثة.
لا ينكر عارف بأصول الدين ومقاصده الجوهريّة مدى الأوهام التي تلفّ بعض الآراء الفقهيّة المنسوبة إلى جملة الأحكام الشرعيّة، بسبب تعطل مسار الاجتهاد العقلي منذ سقوط الحضارة الإسلاميّة، فضلاً عن انحراف بعضها في مجال السياسة الشرعيّة على خلفيّة المُلك العضوض الذي آل إليه مصير الخلافة الراشدة منذ بداية العهد الأموي.
غير أنّ ذلك القصور لا يبرّر لمنتقدي الغثّ في تراثنا الفقهي الزاخر، أنْ يجدوا ذريعة واهية للانقضاض على الإسلام ذاته، الذي يمثل روح الانتماء للأمّة، بحجّة عدم صلاحيّة الشريعة للتعايش مع متغيرات العصر.
وعليه، يصبح المخرج السليم من دائرة الفراغ والصدام التي يفرضها غلاة التفريط والإفراط، هو تشجيع العقل الإسلامي على تجديد الفهم والقراءة للمرويات والنصوص، بهدف تنزيلها على مجريات الواقع بكلّ تجلياته، بما يحقّق المراد الشرعي دون تنطّع ظاهري، مثلما يقدّم الأجوبة الشافية على حيرة المسلمين، أفرادا وجماعات وتنظيمات ودولا، إزاء كل القضايا المستجدّة والطارئة في كافة جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسيّة وسواها. ودون ذلك، ستكون المجتمعات الإسلاميّة مخيّرة بين الانحلال الحضاري من هويتها الدينيّة، عدا التشبُّث بطقوس العبادات الفرديّة، أو العيش دون تأثير رسالي، خارج إحداثيات التاريخ والجغرافيا في عالم صار محكوما بقيم المنتصرين.
عن صحيفة الشروق الجزائرية