لا أنسى ما سمعته من دبلوماسي إيراني مخضرم قبل أعوام عندما قال لي:
«إن السعودية أكبر نعمة أرسلها الله للجمهورية الإسلامية الإيرانية». ظننت وقتها
أن الرجل يهذي أو يبالغ، لكن عندما بدأ يشرح لي الفوائد الجمة التي حصلت عليها
إيران من وراء السياسات السعودية، وجدت في كلامه الكثير من المنطق. قال الدبلوماسي
وقتها: «السعودية تزرع لنا ونحن نحصد».
لقد دفعت نفقات الغزو الأمريكي للعراق، ووفرت كل ما يحتاجه الغزو،
وحشدت كل حلفائها العرب للقضاء على النظام العراقي أقوى خصم للفرس في تاريخ
المنطقة. وقد نجح الأمريكان بدعم هائل من السعودية باحتلال العراق وإسقاط نظام
صدام. لكن بعد أن أدت السعودية مهمتها على أكمل وجه في العراق، خرجت منه خالية
الوفاض، وتركت الساحة للإيرانيين ليتقاسموها مع الأمريكان. أضف إلى ذلك أن
الجمهورية الإسلامية لم تخسر جنديا ولا دولارا واحدا في العراق، بل حصدت الثمار
على البارد المستريح، فسيطرت على الأرض والثروات، وراحت تتحكم بالقيادات العراقية
الجديدة بالتعاون مع الأمريكان المفترض أنهم حلفاء المملكة السعودية، بينما فقدت
السعودية تأثيرها في بلاد الرافدين تماما، لا بل إنها خذلت سُنة العراق وتركتهم
فريسة للنفوذ الإيراني ليصبحوا كالأيتام على مائدة اللئام.
«ماذا
نريد نحن الإيرانيين أكثر من ذلك»، يضيف الدبلوماسي؟ «لقد قدمت السعودية لنا خدمة
تاريخية وساعدتنا في إحكام قبضتنا على العراق الذي لطالما حلمنا به». والأغرب من
ذلك أن السعودية نست تماما بعد أن سلمت العراق على طبق من ذهب لإيران أنها مولت
حرب صدام حسين ضد الجمهورية الإسلامية لثمان سنوات هي وبقية دول الخليج. وبدلا من
أن تواصل المعركة ضد إيران، أهدت العراق للفرس لاحقا بعد أول صاروخ أطلقه صدام
حسين على الظهران في الأراضي السعودية.
لقد ذهبت كل المليارات التي دفعتها المملكة لصدام في حربه على
الإيرانيين أدراج الرياح بعد أن أصبحت الجمهورية الإسلامية صاحبة القول الفصل في
العراق الآن، فهي من تختار القيادات، وهي من تتحكم بكل شاردة وواردة في البلاد مع
الأمريكيين، لا بل إنها تفوقت أحيانا على العم سام في أرض العراق بحكم علاقاتها
الدينية الوطيدة مع الغالبية الشيعية في البلاد.
وقبل
العراق تظاهرت السعودية بمنافسة إيران في لبنان، وأنفقت هناك المليارات على أمل أن
تكون الآمر الناهي في جمهورية الأرز.
ولا
ننسى أنها كانت وراء الاتفاق التاريخي الذي أنهى الحرب الأهلية التي استمرت ستة
عشر عاما في لبنان. وأعني اتفاق الطائف. لكن ماذا بقي للسعودية في لبنان الآن منذ
الطائف؟ لقد تلاشى نفوذها إلى حد كبير، لا بل إنها فقدت سيطرتها على سُنة لبنان،
وفي الآونة الأخيرة راحت تدق الأسافين بين القادة السنة هناك، وتضربهم بعضهم ببعض،
فألبت أشرف ريفي على سعد الحريري، وبدل أن تعمل على رص صفوف السنة وجعلهم جبهة
واحدة ضد النفوذ الإيراني في لبنان، فرقتهم وجعلتهم يخسرون الكثير من المقاعد في
مجلس النواب الجديد، بينما راحت غالبية المقاعد لأنصار إيران وسوريا. وقد تحول سعد
الحريري حليف السعودية الأول في لبنان إلى زعيم سُني بلا حول ولا قوة، لا بل صار
تحت رحمة حزب الله ومؤيدي الجمهورية الإسلامية في لبنان. ولا ننسى ما فعله ولي
العهد السعودي محمد بن سلمان بالحريري قبل فترة عندما احتجزه في الرياض، وضغط عليه
كي يعلن استقالته على الهواء مباشرة من السعودية. وقد كان لذلك الحدث الكارثي
عواقب وخيمة على السعودية وعلى حلفائها في لبنان الذين انقلبوا عليها، لا بل إن
بعضهم انحاز لحزب الله حليف إيران الأول في لبنان. باختصار، ماذا بقي للسعودية في
لبنان بعد أن تحول إلى محمية إيرانية؟ من المسؤول عن تقديم لبنان هدية للإيرانيين؟
وحدث
ولا حرج عن سوريا. لقد باتت إيران مع روسيا الآمر الناهي. ورغم أن السعودية كانت
تدير العديد من الفصائل والجيوش في سوريا، إلا أنها تخلت عنها لصالح الإيرانيين،
وكان آخرها جيش الإسلام الذي كان يحاصر العاصمة دمشق لسنوات. وبينما تلاشى النفوذ
العسكري السعودي في سوريا، باتت الفصائل الإيرانية تصول وتجول في كل أنحاء البلاد،
حتى أن بعضها ما زال قريبا من الحدود الإسرائيلية.
وبدل
أن تعثر المملكة على مربط فرس في دمشق، صارت عاصمة الأمويين كعاصمة العباسيين مجال
نفوذ حيوي إيرانيا، وخرجت السعودية كالعادة من عاصمة عربية أخرى من المولد بلا
حمص، بعد أن سلمتها لإيران.
ولا
ندري كيف سيكون حال السعودية في اليمن على حدودها، بعد أن صارت صواريخ الحوثيين
المدعومين إيرانيا تطال القرى والمدن السعودية بسهولة. لم تستطع المملكة حتى الآن
أن تكسب المعركة في محيطها الاستراتيجي حيث بات الحوثيون أعوان الإيرانيين يسيطرون
على العاصمة صنعاء، ولا ندري أين يصلون. أليس من حقنا أن نسأل أيضا: من دعم
الحوثيين ومولهم على مدى السنين ثم سلمهم لإيران في اليمن؟
وفي
الأمس القريب من الذي حاصر دولة قطر وأجبرها على إيجاد منافذ جديدة لكسر الحصار
الرهيب الذي فرضه محمد بن سلمان عليها؟ هل كانت قطر لتلجأ إلى إيران لولا أن
السعودية دفعتها دفعا لتبحث عن مخارج من الحصار الوحشي؟ على ضوء هذا التراجع
السعودي الرهيب أمام الزحف الإيراني، وعلى ضوء تهديد مدير قناة العربية أحد أقرب
المقربين من ولي العهد السعودي بالتحالف مع إيران وحزب الله إذا حاصرتهم أمريكا،
فهل كان هناك فعلا صراع سعودي إيراني؟ أم إن الرياض تعمل بوظيفة مُسهّل للتغلغل
الإيراني في المنطقة بالتنسيق مع أمريكا؟
لماذا
تجمع إيران تحت جناحيها كل شراذم الشيعة في المنطقة، بينما تحارب السعودية كل
الفصائل الإسلامية التي تعادي إيران وتحاصرها، وتقضي عليها بحجة محاربة الإرهاب؟
ألا يصب ذلك في الجيب الإيراني بشكل مباشر أو غير مباشر؟ هل سنكتشف في يوم من
الأيام أن الصراع السعودي الإيراني المزعوم عبر التاريخ الحديث كان كذبة كبيرة،
بدليل أن السعودية دعمت القضاء على كل خصوم إيران الحقيقيين في المنطقة كنظام صدام
حسين، بينما راحت الآن تدعم النظام السوري وتمد معه الجسور رغم أنه الحليف الأول
لإيران في المنطقة؟ هل سنكتشف يوما أن السعودية وإيران يشكلان جناحي الاستراتيجية
الأمريكية في المنطقة، وأن الرياض عشيقة طهران من وراء الستار؟
عن صحيفة القدس العربي